بقلم: نبيل عمرو
حين قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مشروع روجرز في العام 1969/ 1970 ثارت ثائرة الفلسطينيين وبالغوا في التهجم على الرجل الذي وصف ثورتهم في حينه بأنها أنبل ظاهرة وجدت لتبقى.
نُقل عن الرئيس عبد الناصر أيامها أنه قال لو كنت فلسطينياً لرفضت مبادرة روجرز غير أن اعتراضي ليس على رفضهم وإنما على الطريقة التي اعتمدوها للرفض.
كانت طريقة لا صلة لها بالسياسة ما حمل الرئيس ياسر عرفات واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير على طلب لقاء الرئيس الراحل وتقديم اعتذار له على ما فعله المتظاهرون في ساعة انفعال غير مسيطر عليها والمكان كان عمان.
قبل الرئيس عبد الناصر اعتذار الفلسطينيين وأظهر تسامحاً تجاههم، وعادت الأمور إلى مجاريها وسجل التاريخ أن عبد الناصر وبعد شهور قليلة هو من أنقذ ياسر عرفات من حرب أيلول وأحضره إلى القاهرة ليشارك في القمة العربية التي وضعت حداً للاقتتال، وفي اليوم التالي لانفضاض القمة أُعلنت وفاة عبد الناصر.
ما دعاني لاسترجاع هذه الواقعة التي حدثت منذ نصف قرن، هو محاولة من جانبي لتفهم غضب الفلسطينيين الراهن من مجريات العلاقة المستجدة مع إسرائيل، حيث تم الاعتذار ولو بصورة غير مباشرة عن بعض المسلكيات التي أفرزها الهياج الانفعالي جراء ما حدث، ليستمر الغضب الفلسطيني في إطاره السياسي المشروع الذي يستحق التفهم.
التفهم يعني أن ينصرف الجهد الراهن والمستقبلي إلى تبديد مخاوف الفلسطينيين وإحلال الأمل محل اليأس والإحباط الذي يشعرون به، وذلك لن يكون إلا بعمل عربي جماعي يضغط بقوة وفاعلية لبلوغ حل يرضي الفلسطينيين، ذلك ليس فقط لإراحة الضمير وتجسيد التضامن معهم وإنما لوعي ينبغي أن يسود مفاده أن أي سلام ثنائي يتبلور مع دولة أو عدة دول لن يؤدي الى المأمول منه أي نقل المنطقة من حالها المضطرب الى حال مستقر إلا إذا حلت القضية الفلسطينية حلاً يرضي أهلها ويلتزمون به.
ما يؤكد هذا التحليل أن دولتين عربيتين نوعيتين في مجال الصراع العربي الإسرائيلي، هما مصر والأردن، أنجزتا معاهدة سلام مع إسرائيل، إلا أن المعاهدتين لم تنهيا الصراع ولم تأتيا بسلام على صعيد المنطقة، حتى حين ذهب الفلسطينيون إلى مجازفة أوسلو ووقعوا مع إسرائيل على إعلان مبادئ واتفاقات وتفاهمات ومضوا قدماً في ترتيب علاقات سلمية معها، تبين أن ما حدث ليس فقط لم يحقق سلاماً أو تطبيعاً وإنما أدى بسبب عدم نضجه وعدم اتساع دائرته ليشمل آخرين من اللاعبين في المنطقة إلى انهيار لأحلام السلام المرتجى وقلب معادلة الاستقرار والتنمية إلى حرب نزفت مزيداً من الدماء وأبعدت الفلسطينيين كثيراً عن التنمية التي وعدوا بها في ظل دولة مستقلة قالت الاتفاقيات إنها ستقوم بعد خمس سنوات هي الفترة الانتقالية التي حددت للحكم الذاتي المحدود.
أحياناً وربما دائماً ما ننفق وقتاً طويلاً وجهداً في الجدل حول من المسؤول عن إخفاق الاتفاقات في تعميم وترسيخ السلام والاستقرار، وفي هذا المجال تقسم الاتهامات مناصفة بين الفلسطينيين الذين يقال عنهم إنهم ما تركوا فرصة لإضاعة الفرص إلا واغتنموها، والإسرائيليين الذين قرر يمينهم النافذ إغلاق كل الفرص أمامهم في سياسة منهجية لمنع ولادة دولة لهم، وهذا الاتهام المزدوج لا طائل من ورائه ولا جدوى ترتجى من إنفاق الوقت والجهد في مساجلات وملامات لا تنتهي حوله، لأن الحقيقة التي أثبتتها تجارب الإخفاق وحتى بعض النجاح تقول... إن السلام إن لم يكن شاملاً فالخطر دائماً يحيط به، خصوصاً ونحن نعيش في منطقة تتداخل فيها القوى والأجندات وتضم كيانات أبوابها مفتوحة على التدخلات الخارجية وأجنداتها الخاصة.
السلام الذي يمكن أن يستقر هو الذي ينخرط فيه كل العرب الذين هم أهل الشرق الأوسط، وشرطه أن ينعم به الفلسطينيون بحقوقهم التي قررها العرب قبل غيرهم واعتمدها العالم، وهذا ما بدا أنه صعب إلا أنه ليس مستحيلاً فهو أقرب مسافة بين نقطتين.