عقب التفجير الضخم الذي أودى بحياة الشهيد رفيق الحريري، سرّب الفاعلون رواية أعلنوا فيها أن الفاعل شخص يدعى «أبو عدس»، يقطن في أحد مخيمات بيروت، وقد سخر الناس من هذه الرواية بفعل إفراطها في السذاجة واستغباء الآخرين.
وحكاية «أبو عدس» تشبه حكاية الفلاح العراقي الذي منتجه رجال الإعلام وصوروه مسقطاً لطائرة الأباتشي، على أنه دليل قطعي على هزيمة التكنولوجيا الأميركية أمام التصميم العشائري العراقي.
خطرت في بالي هذه الصور التي تنطوي على قدر من الكوميديا وأنا أتابع سيل الروايات الذي انهمر بعد دقائق من وقوع الانفجار الذي لم يقتل رئيس الوزراء الفلسطيني ولا مدير المخابرات.
من الذي فعلها؟ نظرية المؤامرة التي ازدهرت أنتجت روايات متعددة؛ فسلطة رام الله اتهمت حركة حماس، وسلطة حماس اتهمت إسرائيل، أما الذين يحبون توسيع الدائرة من أجل التميز، فقد أوجدوا صلة بين التفجير واجتماع واشنطن الذي دعا إليه البيت الأبيض لمعالجة مأساة غزة.
وبين هذه المقولات التلقائية، تناثرت مقولات متعددة حول صلة «داعش» أو «النصرة» أو من على شاكلتهما من التشكيلات الإرهابية التي يشاع أنها تعمل في غزة.
يبدو لي أنه لن يصل أحد إلى نتيجة حاسمة؛ ذلك أن المناخ في غزة، وحدّة الاستقطاب بين القوى المتصارعة على أرضها الضيقة، يجعلان من المستحيل معرفة الحقيقة، وحتى لو عرفت ولو بمحض الصدفة، فإن استفحال نظرية المؤامرة سوف يطمسها، فكل شيء في هذه الحالة موظف للأجندات وليس للحقائق المجردة.
إذن لنتوقف عن سؤال «من الفاعل؟» الذي لا طائل من ورائه، لنعالج الآثار المترتبة على هذا التفجير مع مراعاة التوقيت الذي أتى فيه.
كان الوفد المصري يتابع جهوده الصبورة لمعالجة قضية الانقسام، دون الإفراط في التفاؤل بإحراز تقدم ولو طفيف، وحين وقع الانفجار، واندلعت الاتهامات المتبادلة، انتقلت حكاية المصالحة من الاستعصاء إلى الاستحالة، ووقعت الجهود المصرية بين تجاذبين إضافيين أكثر حدة وتأثيراً من كل التجاذبات السابقة.
لم تعد مسألة المصالحة مسألة رواتب وتوافق وتدرّج في تمكين حكومة الوفاق الوطني من أداء مهامها، فبعد الانفجار صارت الحكاية المركزية «من يسيطر بصورة كاملة لا فراغات فيها على الأمن».
وبعد الانفجار كذلك، تعززت نظرية الرئيس محمود عباس بأنه لا مصالحة دون إخضاع كل السلاح الموجود فوق الأرض وتحتها للسلطة الشرعية، وفي توضيح لموقفه استعان بظاهرة «حزب الله» في لبنان، مؤكداً وملتزماً برفض استنساخها في فلسطين.
جرت محاولات للتخفيف من حدة اشتراط محمود عباس، باعتماد مبدأ: «نبدأ بالأسهل لنصل إلى الأصعب»، وظهر قبول نسبي لهذا المبدأ، فبضعة ملايين من الدولارات قد ترطب الأجواء وتفتح الأبواب المغلقة.
حين وقع التفجير انقلبت المعادلة، ولربما تزحف بآثارها التدميرية على مستقبل العلاقة بين غزة والضفة، وعادت للتداول من جديد حكاية «دولة في غزة مع شبه دولة في الضفة»، وربط ذلك بصفقة القرن قيد الإعداد.
لم تخلُ غزة يوماً من انفجارات، ولم ينشغل الناس كثيراً بأمر «من الذي فعل هذا التفجير ولماذا».
في غزة سيطرة أمنية مطلقة لحماس، بمعنى أنه لا أحد ينافسها في هذا الأمر، إلا أن فجوات كثيرة تتخلل المنظومة الأمنية، ما جعل القطاع كله أشبه بقنبلة مفخخة ذات صواعق متعددة، وبوسع أي لاعب على أرضها الضيقة أن يضغط على الصاعق الذي بحوزته إذا كان التفجير يخدم أجندته.
هذا هو الوضع في غزة، وفي حالة من هذا النوع يصبح السؤال «من الفاعل؟» ثانوياً جداً في المعادلة، ولا نستغرب أن يظهر «أبو عدس2» أو أن يقع أمر أفدح يأخذ الاهتمام إلى مكان آخر.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه