بقلم: نبيل عمرو
أخيراً صدرَ القرار المنتظر بشأن فساد نتنياهو، انقسمت إسرائيل مناصفة في ردِّ الفعل، مناصروه معه ظالماً أو مظلوماً، وخصومه ضده ويعملون على اعتصار قرار المدعي العام حتى آخر قطرة، ولن يرضيَهم أقل من خروجه النهائي من الحياة السياسية.
الرهان العملي ينحصر في استقطاب بعض من معه لتشكيل حكومة، وهذا رهان غير مضمون مع أنه محتمل، فلا أحد يعرف أين يصلُ إغواء السلطة بالمواقف القديمة، خصوصاً أن الإغواءَ هذه المرة لا يتعلق بالحصول على منصب وزاري أو قيادة جهاز، بل بقيادة دولة إسرائيل.
القضايا التي أحيل نتنياهو إلى القضاء بسببها هي أقل بكثير مما فعل ويستحق المسائلة والإدانة. ولو أن هنالك نائباً عاماً لا يأتمر بأمر القوانين الإسرائيلية، وإنما بالحقائق الموضوعية، لتجاهل الرشوة وزجاجات الشمبانيا وعلب السيجار وحتى الكذب على المحققين، فهذه تُهَمٌ تبدو هامشية أمام ما فعل نتنياهو في عهده طويل الأمد؛ ليس بإسرائيل وحدها بل في المنطقة كلها.
في إسرائيل لم يبقَ شيءٌ لم يعلن الحرب عليه فقد اشتبك مع القضاء الذي يعدّ درة التاج في الدولة العبرية، وأوشك على إلغاء دوره أو ترويضه لمصلحته مستغلاً أغلبيته اليمينية في الكنيست واشتبك مع الصحافة والثقافة بحيث لم يبقَ معه كاتب عليه القيمة، فضلاً عن حكايته المدوية مع ناشر «يديعوت» حين ساومه على إضعاف الصحيفة المنافسة «إسرائيل هايوم»، لقاء حصوله على بعض التغطيات الإخبارية والترويج لقراراته في الصحيفة الأوسع انتشاراً في إسرائيل، وكذلك حين كان يجرُّ الدولة إلى حروب وتوترات كان يمكن تفاديها لولا حاجته للأصوات والظهور بمظهر بطل الأمن وحامي حمى الدولة، حتى وصف عهده بمصطلح «بين كل حرب كبرى والحرب التي تليها حروب صغيرة على كل الجبهات».
ثم ماذا فعل حيال المليوني عربي من مواطني الدولة، وبأي حيثيات عنصرية صريحة أعلن الحرب عليهم، عبر تحريض سوقي هابط واصفاً ممثليهم المنتخبين بالطابور الخامس، ومحذراً الناخبين اليهود من تدفق العرب إلى صناديق الاقتراع، متناسياً أنه شخصياً وفي خطاباته أمام الأمم المتحدة كان يتباهى بقيادته لدولة سمَّاها واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
إن تحريضه على العرب مواطني دولة إسرائيل وحده يعادل كل التهم التي بمقتضاها سيذهب إلى القضاء، أما الكذب من أجل إشاعة إنجازات خارقة ليس لها أي أساس في الواقع فكل يوم كان الإسرائيليون يستقبلون منه سيلاً من الادعاءات الملفقة، حول ما كان يصفه بالانقلابات الجذرية التي أحدثها في الشرق الأوسط، التي من خلالها حوّل عرباً إلى حلفاء لإسرائيل، ثم ماذا فعل بحلم السلام والاستقرار الذي راود شعوب المنطقة والعالم بما في ذلك أكثر من نصف إسرائيل؟... أليس هو وشريكه اللدود شارون من دمرا أي إمكانية لتقدم مشروع السلام مع الفلسطينيين؟ ثم أليس هو وبسلوكه الاستفزازي المتعالي من دفع ملك الأردن إلى الإعلان في واشنطن مؤخراً بأن العلاقة مع إسرائيل هي الآن في أسوأ حالاتها، بعد أن أوصل السلام مع الأردن مرات كثيرة إلى حافة الهاوية، لإرضاء متشددين متعصبين يعبثون بالمقدسات التي هي تحت الرعاية الأردنية؟
ماذا نقول وماذا لا نقول عن عهد نتنياهو؟ ماذا يقول أهل غزة والضفة؟ إن روزنامة أيامهم مخضبة بالدم، وأرضهم وممتلكاتهم وأرواحهم تنتهك كل يوم، كم عائلة أبيدت في حروبه معهم وآخرها عائلة السواركة التي لم يجفَّ دمها بعد، وكم بيت وحيّ تحول إلى ركام، إمَّا بقصف الطائرات أو بالنسف تحت حجة أنه بُني دون تصريح، مع العلم بأن الحصول على تصريح لبناء بيت هو من أكثر المستحيلات استحالة.
العالم يجمع على أن ما فعله نتنياهو بالفلسطينيين يعدّ جرائم حرب تستحق المحاكمة بل وأشد العقوبات، سوف يصدر لنا قادة إسرائيل تقديم نتنياهو للمحاكمة على أنه دليل على قوة العدالة في دولتهم، وهذا يمكن أن يكون صحيحاً لو أن مقياس العدالة من عدمه هو علب السيجار وزجاجات الشمبانيا التي يُتهم رئيس الوزراء بالحصول عليها من وراء ظهر القانون، أو التهم الأخرى بخصوص تزوير للفواتير واختلاس عائد القوارير الفارغة.
لن نشتري هذه البضاعة لأن ما فعله نتنياهو وتركيبة الحكم في إسرائيل قبله وبعده يستحق المحاكمة والإدانة والعقاب.
لقد ذهب نتنياهو، وقد نعاني من محاولاته اليائسة لاستغلال كل ما يقع تحت يديه للبقاء في سدة الحكم، وقد نعاني أكثر ممن سيخلفونه، الذين يبشرون بسياسة أكثر تشدداً لاستقطاب الأصوات من وراء ظهر العدالة.