بقلم: نبيل عمرو
كثيراً - وربما دائماً - ما كان الخطأ في تقدير القوة الذاتية وحجم القوى الأخرى المؤثرة في اللعبة، السبب الأساسي في هزيمة الذات. والحديث هنا ليس عن زعيم يمكن أن يغادر الموقع بحكم الفشل؛ بل عن بلد يمكن أن ينهار، وهيهات أن يُبنى من جديد.
أمامنا نموذجان بينهما فوارق كثيرة، إلا أن مشتركاً واحداً بينهما يكفي لإحداث نتائج فادحة، إن لم تدمر البلد فإنها تعوق وتيرة نموه، وتعيده سنوات إلى الوراء.
النموذج العراقي الذي جسّده صدام حسين، الذي أهدر انتصاره الكبير على إيران، حين استسهل احتلال الكويت وإعلانها محافظة عراقية، دون أن يقيم وزناً للمعارضات الإقليمية والدولية؛ بل إنه وبفعل أحادي غيَّر بديهيات الحسابات؛ بحيث صار واحد مقابل الكون كله كفيلاً بالنصر.
ذهب صدام وترك لنا عراقاً لا لزوم للتوسع في وصف حالته، ذلك أن المعطى الحاسم لما فعل صدام في الكويت لم يكن مجرد تدمير متأخر للعراق، الذي هو إحدى أهم دول الشرق الأوسط؛ بل ضرب أساس القوة الاستراتيجية لأمة بأسرها.
مع فوارق كبيرة ذاتية وموضوعية بين العراق وتركيا، وبين صدام وإردوغان، فإن العالم رأى المشترك الذي هو خطأ تقدير حجم القوة الذاتية، وخطأ آخر لا يقل فداحة، هو خطأ تقدير حجم القوى الأخرى المعنية باللعبة الراهنة التي تقع تركيا في مركزها.
دوافع الاهتمام التركي بتطورات الأوضاع على الأرض السورية مفهومة ومنطقية ومتعاطف معها، غير أن الحساب والعقاب لا يكون وفق منطقية الدوافع وعدالتها، وإنما وفق كيفية أداء مهامها، ذلك أن العدو الحاسم لعدالة الدوافع ومنطقيتها هو التهور في أداء السياسة، ودفع الأمور إلى الحرب، التي غالباً ما تبدأ محدودة، إلا أن تفاعلاتها المباشرة والبطيئة لا تتوقف طيلة عقود.
ما هو المقياس البسيط لخطأ إردوغان في قراره اجتياح الأراضي السورية؟ المقياس ليس فقط ما وفر من مزايا غير متوقعة لمصلحة خصومه، ولا ما جلب على تركيا من كوارث متعددة الأوجه، فهذا النوع من الكوارث تنتجه الحروب حتى المنتصرة منها. المقياس يحدده تجنب السلوك الذي يحقق الأهداف بأقل الخسائر، لمصلحة سلوك يضاعف الخسائر ولا يحقق الأهداف، وهذا ما ذهب إليه إردوغان، ومهما ساق من مبررات فلن يؤثر ذلك على فداحة الخسارة.
العرب جميعاً من الخليج إلى المحيط - والترتيب ليس صياغياً فقط - اعتبروا تركيا الإسلامية وحتى الأطلسية والعثمانية، إن لم تكن شقيقة فهي ابنة عم، وكانوا يسعدون كلما تقدمت تركيا في أي مجال، حتى أن بعض الخرافات اتخذت وقعاً منطقياً حين استفتي شعب في دولة عربية: من هو زعيم الأمة: صدام أم إردوغان؟ إن مجرد عرض هذين الاسمين لاستفتاء أو استطلاع، ولو محدود المساحة، حول زعامة أمة، يسجل في مصلحة إردوغان، ذلك قبل أن يتحول إلى محتل لأرض عربية، ما نبش من الذاكرة حكاية ربما تكون نسيت اسمها، اقتطاع لواء إسكندرون.
إن إصدار أمر للجيش التركي العملاق باجتياح أجزاء من الأرض السورية هو أسهل ما في الأمر، والأسهل كذلك أن ينجح هذا الجيش الأطلسي في احتلال قوى ومدن تخص دولة أخرى وشعباً آخر، غير أن الصعب الذي يشارك حدود المستحيل أن ينجح صاحب قرار الاجتياح العسكري في وقف التفاعلات التي ستنتج عن هذا القرار، والحرب التي نجمت عنه. فهل يفكر الرئيس إردوغان بأن هنالك أكثر من طوق نجاة يلقى إليه، ويقابله أكثر من لغم يمكن أن ينفجر فيه، فيتخلى عن القرار السريع والمتهور، ويلوذ بالحكمة؛ خصوصاً أن ما حدث مع غيره يصلح نموذجاً للاقتداء المعاكس؟