يدور جدل واسع في إسرائيل حول ما يوصف بـ«أزمة العلاقة مع الإدارة الأميركية» والجدل، حول هذه النقطة خصوصاً، ليس موضوعياً تماماً، بفعل استثماره الأزمة في السجال الداخلي بين القوى المتصارعة على السلطة والنفوذ.
ونظراً لأن الحضور الأميركي في الحياة الإسرائيلية، قوي التأثير في الرأي العام، فإن كل طرف من أطراف الصراع، يحرص على اتهام الطرف الآخر بإساءة السلوك إزاء الحليف الأول والأخير لإسرائيل.
المعارضة تتهم الحكومة باستفزاز الإدارة الأميركية، من خلال تفريطها في القيم المشتركة التي بُنيت عليها العلاقة الاستراتيجية مع الدولة العظمى، ويدخل في هذا السياق... مضي الحكومة قدماً في مسار الإصلاحات القضائية المتحفظ عليها من قبل الإدارة. وكذلك وجود عناصر متطرفة في الحكومة تحرج «بلغتها وسلوكها» الإدارة الأميركية، وتضيق هوامش الدفاع عن إسرائيل.
أما الحكومة... فتدافع عن سياساتها، بالمبالغة في ادعاء الاستقلالية عن السياسات والمواقف الأميركية، حتى إن كثيراً من وزرائها وكُتابها أظهروا استخفافاً بها، ودعوا إلى تحديها ليس فقط في إسرائيل وإنما داخل الولايات المتحدة ذاتها... وقد بلغ الشطط في هذا الأمر حد الحديث الصريح عن بدائل، بتطوير علاقات مع دول أخرى، لا ترضى عنها الولايات المتحدة.
نتنياهو هو العنوان الصارخ للأزمة الحالية، ونظراً لإدراكه قوة التأثير الأميركي في الرأي العام في إسرائيل، فإنه يقيم وزناً يكاد يكون مصيرياً للاستنكاف الأميركي عن تتويجه من قبل البيت الأبيض، وإهماله المتعمد بإلقاء ضوء أميركي كاشف على رئيس الدولة الذي دعي إلى واشنطن.
وسياسي حاذق مثل نتنياهو يدرك مغزى دعوة رئيس الدولة بوصفها عامل ضغط من العيار الثقيل عليه وعلى ائتلافه.
ونتنياهو كذلك يدرك أنه مشروع ترويض أميركي وليس مقاطعة حاسمة، وقد فقد توازنه حين وضعته إدارة بايدن تحت شروط لا يستطيع الوفاء بها، كي تفتح أبواب البيت الأبيض أمامه، وأصعب هذه الشروط هو التخلي عن الوزراء المتشددين الذين هم أساس بقائه في موقعه.
والتخلي كذلك عن الإصلاحات القضائية، وهذا ما يعدّه نتنياهو نهاية لعهده في رئاسة الوزراء الآن، وفي المستقبل.
بتدقيق في موقع القضية الفلسطينية من الأزمة الأميركية -الإسرائيلية، وحتى الخلاف مع الإدارة بشأنها يبدو ثانوياً، ويمكن أن يوصف بـ«الهامشي» من حيث التأثير في المجرى العام للسياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين، فأميركا التي لا تكف عن انتقاد السياسة الاستيطانية، والإفراط في التنكيل بالفلسطينيين لا تقترح حلولاً جدية لأصل المشكلة، بقدر ما تدير أزمة تفهم إسرائيل من خلالها، أنها طليقة اليد في مواصلة سياستها «الفلسطينية»... بمعنى أن الموقف الأميركي من هذه المسألة تحديداً سهل احتواؤه وتفريغه من أي مؤثرات فعلية.
في مقالة مطولة للسيد دينيس روس، وهو أحد أهم الخبراء الأميركيين في الشأن الفلسطيني - الإسرائيلي، وما هو أوسع، أي الشأن الشرق أوسطي، لاحظت تشخيصاً دقيقاً وتفصيلياً لواقع الأزمة الفلسطينية ا -لإسرائيلية، إلا أن ما رآه مَخرجاً منها هو إعادة استنساخ تجربة سلام فياض «الإصلاحية» ودعوة الرئيس عباس بتكليفه، أو من يشبهه، رئاسة حكومة جديدة .
أميركا، الإدارة الرسمية ومن يدور في فلكها من الخبراء، لا يقتربون من حقيقة أن الوضع الفلسطيني - الإسرائيلي لن يعالج بصيغ بيروقراطية، فأساسه سياسي ولا مناص من معالجته سياسياً، وهنا تنهض أطروحة أميركية مفادها «مع هذه الحكومة المتطرفة في إسرائيل، فلا فرص لمجرد الحديث عن الأفق السياسي»، ما يظهر أن القوة الكونية الوحيدة التي يمكن التعويل عليها للتأثير في السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، تؤثر التكيف مع الواقع، وهذا ما يرغب به الإسرائيليون ويعتمدون عليه.
الأزمة الإسرائيلية - الأميركية الراهنة، ينبغي أن تُقرأ ليس من زاوية اعتراض أميركي على وزراء في حكومة، ولا من زاوية اعتراض على سلوك إسرائيلي مفرط في التنكيل بالفلسطينيين، بل من زاوية أعمق وأوسع، يمكن تلخيصها بإيجاز شديد: «اختلاف الإدارات أمر يكاد يكون يومياً، ولكن من غير المسموح له أن يمس أساس العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين»، وهذا ما يواصل الجانبان تأكيده، وهو فعلاً الأصدق في كل ما يقال.