تعيش الطبقة السياسية الفلسطينية حالة انتشاء وزهو إعلامي، من خلال قولها المتكرر بأنها أبعدت الأميركيين من عملية السلام، ووضعت صفقة القرن وراء الظهر، حتى أن كثيرين استخدموا عبارة «جعلناها تولد ميتة».
ولو أن صفقة القرن وجوداً وعدماً ترتبط بموافقة الفلسطينيين عليها أو رفضهم لها، لكان ما يقال صحيحاً، أما إذا كان الأمر أوسع من ذلك، وهو فعلاً كذلك، فإن صفقة القرن قد لا تحقق الحل الذي وعدت به، إلا أنها وضعت منذ الإعلان عن البدء في صياغتها موضع التطبيق.
ولكي نرى الصورة بمختلف ألوانها، فيتعين تحديد مواقف القوى المتصلة بالحل في الشرق الأوسط، وتحديداً المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وفي أمر هذه الصفقة الكبرى، فإن ما ينبغي تحديده بدقة هو القدرات قبل المواقف.
أبدأ بإسرائيل... للدولة العبرية منهج ثابت في التعامل مع المبادرات السياسية التي تطرح لحل النزاع المزمن مع الفلسطينيين، فهي توافق على النص وتحقق ما تريد في التطبيق، ولمن نسي أذكّره بالموقف من أوسلو، ومن خطة خريطة الطريق التي قدمتها الرباعية الدولية باسم العالم كله، ونذكّر كذلك بجميع التفاهمات التي تمت خلال المسيرة التفاوضية الطويلة المباشرة وغير المباشرة مع رام الله وغزة... «تساهل في تمرير النص، وتطبيق صارم بعيد عن النص»، وهذا ما ستفعله؛ بل ما تفعله الآن، سواءً أعلنت صفقة القرن أم لم تعلن، وسيان إن رفضت أو قبلت، أو تم التحفظ على بنودها.
وقالت لنا التجربة مع أميركا إنها تقبل التحفظ على النصوص، ولكنها تعد الأطراف بمعالجة تحفظاتها على طاولة المفاوضات، وإذا كان المبتدأ في اللعبة الكبرى هو القدس، فمن يراقب ما يجري في إسرائيل لا يجد صعوبة في اكتشاف أن الدولة العبرية من معارضة أو موالاة، تتفق على اعتبار أن القدس قد آلت إليها أخيراً، والحديث يجري الآن ليس على أي تفاوض بشأنها، وإنما على كيفية استيعاب الكثافة السكانية الفلسطينية فيها، والمقصود هنا الجزء الذي لم يحسم بصورة تعاقدية، وهو الجزء التاريخي الأهم، الذي يضم المقدسات ومساحته داخل السور العثماني تبلغ كيلومتراً مربعاً واحداً، أما الكثافة السكانية خارج هذا المربع المقدس، وهي تقارب الثلاثمائة ألف نسمة، فتنهمك إسرائيل في دراسة خيارات وبدائل، تتعلق بهؤلاء السكان الكثيرين، منها إخراج أحياء من مجال القدس الموحدة، ليس لإعطائها للسلطة وإنما لإخضاعها إلى ترتيبات خاصة، تبعد السكان عن أن يكونوا جزءاً من العاصمة العبرية، ولكنها تحتفظ بالسيطرة المطلقة عليهم.
هذه لم تعد مجرد مخططات على الورق؛ بل هي قيد التنفيذ، بعضها تم اعتماده والبعض الآخر ينتظر الاعتماد من جانب الكنيست.
أمّا إكمال المعادلة، فقد مللنا من تكرار تعهدات نتنياهو بخلق واقع أمني واقتصادي وعمراني يجعل من قيام دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً، غير أن ذلك لا يعني عدم اكتراث إسرائيل بصفقة القرن، فهي التي شاركت بصياغتها منذ البداية، وتراها تحقق مزايا باتجاهين؛ الأول فتح أبواب جديدة مع الدول العربية، والثاني تثبيت ما أخذت من الفلسطينيين؛ بحيث تصبح المطالبة بالقدس الشرقية مثلاً كالمطالبة بيافا وحيفا.
اللوم العربي ظاهر ومجسم على الخريطة، وهو تحديداً ما نحتاج لفهمه من خلال معرفة الفرق بين المواقف والقدرات، فالموقف العربي لن يخرج عن الجملة التقليدية: «نوافق على ما يوافق عليه الفلسطينيون، وندعمهم فيما يعترضون عليه»، وهذه جملة أحرجت الفلسطينيين منذ أن ولدت، ولكنهم أظهروا سعادة بها من خلال تكرار القول بأنهم أخذوا من القمم العربية كل ما طلبوا.
والسؤال: هل سيعيق هذا الموقف التقليدي عربة صفقة القرن الممتلئة بوقود أميركي وإسرائيلي؟ الجواب: ربما يعيق على صعيد التطبيع العلني الكامل والمباشر، أما غير ذلك فالقدرة لن تتجاوز هذا السقف.
وكذلك يظهر اللون الأوروبي على الخريطة، من خلال المواقف المبكرة التي انتقدت فيها دول القارة العجوز قرار ترمب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، غير أن الأمر يحتاج إلى تذكر الدور الأوروبي الذي فرض أميركياً، وتقيد الأوروبيون به حرفياً، لم يكن دوراً؛ بل وظيفة مزدوجة، هي ترويض الفلسطينيين تحت عنوان تأهيلهم لمواصلة الاعتدال، مع رقابة صارمة على أدائهم في التهيئة لبناء نظام وكيان، وكذلك الإنفاق على معظم تكاليف صفقة أوسلو، ومن أجل توفير بعض مصداقية لهذه الوظيفة، وإعطاء صفة الدور، كان الأميركيون يسمحون لمندوبي الأوروبيين بالمشاركة في بعض الأنشطة، وأفضل ما حصلوا عليه إشراكهم في إنتاج نصوص خطة خريطة الطريق التي تقوضت بقرار أميركي إسرائيلي، وتقوض معها التأثير الأوروبي في المعادلة.
سيكون الموقف الأوروبي من صفقة القرن إذا ما أعلنت، أنهم يتحفظون على أي أمر لم يتم التوصل إليه عبر التفاوض، ولكنهم سيرسلون من يهمس في أذن الفلسطينيين بأن يكونوا مرنين في أمر الرفض والقبول وفق منطق «ربي غالب».
أخيراً... يقع الفلسطينيون في قلب هذه الشبكة المنسوجة خيوطها بإحكام، وفق تواطؤ بين من يملكون القدرة ومن يملكون العجز، بين من يسلمون بالفاعلية القوية للتحالف الأميركي الإسرائيلي، ومن يرون من واجبهم منح الفلسطينيين مواقف تتفق مع رفضهم.
وسيجمع الفلسطينيون كالعادة كمية كبيرة من المواقف الداعمة، غير أن ذلك لن يخرجهم من الشبكة حين تطرح صفقة القرن ويعلن من يعلن رفضه لها، ويحقق ترمب وعده بإطلاق يد إسرائيل لتفعل ما تشاء، ساعتئذ لا يكفي القول: لقد ولدت الصفقة ميتة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع