توقيت القاهرة المحلي 21:08:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اللغة العربية بين المعرفة والهوية والمشكلات

  مصر اليوم -

اللغة العربية بين المعرفة والهوية والمشكلات

رضوان السيد
بقلم -رضوان السيد

خطأ كبير وسوء تقدير ألا نكتب عن لغتنا وقضاياها ومشكلاتها إلا في المناسبات. والمناسبة الآن اليوم العالمي للغة العربية في 18/ 12/ 2023. وهي مناسبة أعدت لها جهات عدة عدّتها رغم الهموم والاهتمامات الأخرى الملحة.

إنّ التهديد اللغوي واللساني لا يقل أهميةً في دراسته وتأمل إمكانيات معالجته عن أخطار تغير المناخ على الوجود الإنساني وضرورات التصدي لها.

في القرن التاسع عشر مرّت مسائل المعرفة والهوية واللغة لدى العرب بمرحلتين. الأولى فيما بين الطهطاوي وخير الدين التونسي - (1830-1870) انصب الاهتمام على الخروج من الانحطاط بالمعارف الحديثة وإنشاء المؤسسات. وفي هذه المرحلة تصاعد الاهتمام باللغة والقدرات التعبيرية للإفصاح في مسائل المحتوى في التعليم بالمدارس الجديدة والكليات الجامعية. وتوالت محاولات نشر المعاجم القديمة، وكتابة دوائر المعارف. أما في المرحلة الأخرى (1880-1910) فقد احتاج الأمر إلى رؤيةٍ أو إطار. في عام 1877 جرت ترجمة كتاب المؤرخ الفرنسي Gizot تاريخ المدنية في أوروبا. ورغم بدائية الترجمة فقد أُعجبت دائرة جمال الدين الأفغاني (كان لا يزال بالقاهرة) بالكتاب، ومضى به تلميذه محمد عبده إلى الأزهر لإطلاع زملائه وطلابه عليه. وخلال الثمانينات والتسعينات كتب العشرات في المدنية والتمدن والتربية الوطنية والثقافة من مثل بطرس البستاني، ومحمد حسين المرصفي، ورفيق العظم، ومحمد عبده وقاسم أمين. فالخروج من التخلف يقتضي معارف حديثة ويقتضي لغةً جديدةً والهدف تحقيق شروط النهوض الأوروبي والدخول في عمليات التقدم، وأول شروط العمليتين السعي لبلوغ قدرات تعبيرية عربية ما لبث بطرس البستاني أن سمّاها لغة جديدة، بينما كتب محمد حسين المرصفي الوسيلة الأدبية في مقتضيات الكتابة الجديدة، ثم ألّف رسالته: الكلم الثمان، ويعني بها المفردات والمصطلحات الجديدة مثل الأمة والشعب والوطن والدستور، وهي مفردات اكتسبت معاني جديدة في عمليات النهوض والتمدن أو ألفاظ جرى اشتقاقها أو تعريبها لاستخدامها في الصحف والمجلات والمؤسسات التعليمية. بل إنّ هناك من انصرف للكتابة في إصلاح لغة الصحف وكتابة القواميس المتوسطة الحجم الفرنسية - العربية أو العكس.

إنّ كل الذين ذكرناهم وغيرهم كتبوا قبل محمد عبده. لكن عبده كتب في كل هذه الأمور من باريس في الثمانينات بمجلة «العروة الوثقى» التي أصدرها مع الأفغاني ومن بيروت كان قد كتب «رسالة التوحيد» التي تتضمن تجديداً في علم الكلام. ثم عندما عاد إلى مصر من المنافي شكّل دائرةً من حوله، وسعى لنشر معاجم، وطبع «نهج البلاغة» لترقية أساليب البيان، وبدأ دروسه في تفسير القرآن نهجاً لاكتشاف شروط المدنية الإنسانية فيه، وشجع قاسم أمين على الكتابة في «تحرير المرأة»، وأنشأ الجمعية التي قامت بعد وفاته عام 1905 بإقامة الجامعة الأهلية المصرية.

في العشر الأولى من القرن العشرين ظهرت لدى دائرة محمد عبده بمصر فكرة «التاريخ الثقافي». وأصلها لدى المستشرقين الذين نشروا مئات النصوص العربية القديمة في المعاجم والأدب والتاريخ والجغرافيا والرحلات والدواوين الشعرية، وأقبلوا على الكتابة في التاريخ الثقافي والحضاري العربي والإسلامي استناداً إليها. الهوية والنهوض كلاهما محتاج إلى العودة إلى التاريخ الثقافي والحضاري كما نهضت أوروبا واستندت في الوعي بهويتها الحضارية باليونان والرومان. ثم إنّ «المستشرقين» عندما أقبلوا على دراسات الحضارات الآسيوية في الصين والهند واليابان والإسلام كتبوا في تاريخها الثقافي والكتابة في الحضارة والثقافة في عالم الإسلام هو الأسهل والأَولى لضخامة التراث المخطوط بالعربية ثم بالفارسية والتركية. وهكذا تعلّم المثقفون العرب الأوائل تحقيق المخطوطات، وأفادوا منهم أطروحة التاريخ الثقافي للمدنية والحضارة العربية والإسلامية. وبين مطالع القرن العشرين والثلاثينات أنجز المثقفون من مصر ثم من نواحٍ عربية أخرى عشرات الدراسات في التاريخ الفكري والأدبي وفي تاريخ التمدن الإسلامي. ولكي يتجنبوا الغرق في الحواشي والتذييلات كما صار في نهايات العصور الوسطى الإسلامية، راحوا مثل المستشرقين يحققون مخطوطات من القرون المبكرة، ويكتبون دراسات عنها. ومنذ نهايات الحرب الأولى، صاروا يسمون التاريخ الثقافي تاريخاَ للحضارة بدلاً من المدنية؛ لأنهم اطّلعوا على فروق بين الأمرين لدى الألمان والفرنسيين.

إنّ العقود الأربعة بين العشرينات والستينات من القرن العشرين (أي جيل طه حسين) هي التي تبلورت خلالها اللغة العربية الحديثة، ونمت قدراتها التعبيرية في شتى المجالات. إنما بعد أواسط القرن العشرين توقف النمو في تدريس الطب والعلوم البحتة والتطبيقية الأخرى بالعربية.

وما واجه هذا التكون الرائع للعربية الحديثة تحديات كبرى في البدايات باستثناء إشكاليات الهوية أو التوجه الثقافي العام. الشيخ مصطفى عبد الرازق ذهب إلى أن التيارات الفكرية الكبرى في الحضارة الإسلامية أربعة، أكثرها أصالةً وإبداعاً ذاتياً علم أصول الفقه، ثم يأتي علم الكلام، ثم التصوف، وأخيراً ميراث فلاسفة الإسلام الأقل أصالةً؛ لأنه تابعٌ لليونان! ولأنّ المستشرقين كانوا يعظّمون من التأثير اليوناني في الحضارة فقد ازدادت الإدانات لهم باعتبارهم معادين للإسلام، حتى صار الأمر شتائم محضة، وهذا كله قبل النقد المنهجي لإدوارد سعيد. ومع صعود التيارات الأصولية في الستينات وما بعد أوشك الغرب كله أن يكون ملعوناً.

لقد صار الصراع على الغرب وثقافته صراعاً على الهوية الدينية والثقافية. أما الهوية الفكرية فقد تعرضت للتحدي أيضاً من خلال التيار الفكري اليساري في الأكاديميات المغربية والعربية والذين اعتنقوا فكرة «القطيعة مع الموروث» من أجل التمكن من دخول الحداثة التي يحول الموروث الديني والثقافي المسيطر دونها. ولأنّ الحداثة التي أوحى بها باشلار وفوكو وأمثالهما كانت مسيطرة خلال ثلاثة عقود، فقد اضطرب على وقعها وحماس المفكرين العرب لها جيل أو جيلان من طلاب الجامعات العربية - فضلاً عن التداخل بين الحداثة الخاصة هذه وأفكار الأقلية التغييرية والأكثرية الجامدة في عصور الإسلام الوسيطة، بل والأجيال الحديثة والمعاصرة!

وليس بالوسع الزعم أنّ تحدي الهوية وتحدي تيار القطيعة أثرا على مستويات التعبير بالعربية الحديثة. لكن صار هناك اضطرابٌ بين الأصيل والدخيل وبين الغرب والعرب والإسلام - وهو انقسامٌ أثر ليس على الفكرة القومية فقط؛ بل وعلى خيارات النطق بالعربية أو غيرها بعد ثمانينات القرن العشرين.

وظهرت في التسعينات وما بعد تحديات عدة للعربية الفصحى الحديثة. فما عادت كليات الطب والعلوم تدرّس بالعربية. وازداد نفوذ اللغة الدينية الأصولية بعد أن كان المجالان اللغويان الديني والثقافي قد انفصلا بالتدريج في زمن طه حسين والعقاد والزيات وزملائهما.

بيد أن الانتكاسة الكبيرة حدثت عندما عادت العربية لغة الدراسة والتدريس في التعليم الأساسي وبعض التعليم الجامعي.

قال أرسطو إنّ الإنسان حيوان ناطق، أي متميز بالعقل والكلام. فلا عقل بلا كلام، ولا كلام من دون عقل. وبين العقل واللغة يقع الوجود الإنساني، ومنه الوجود العربي.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللغة العربية بين المعرفة والهوية والمشكلات اللغة العربية بين المعرفة والهوية والمشكلات



GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon