بقلم - رضوان السيد
جاءت مطالعة الرئيس فؤاد السنيورة في مؤتمره الصحافي في 1-3-2019 بمثابة نهوضٍ جديدٍ وإيذان باستمرار الصراع على لبنان، ومحاولة أخيرة للحيلولة دون السطوة الكاملة للاختلال والاستيلاء على سلطات الدولة ومؤسساتها الدستورية والعسكرية والمالية. ما منطق «التسوية» التي أتت بالجنرال عون إلى رئاسة الجمهورية؟ كما تبين خلال عامين ونيف بل ومنذ عام 2011 أنها «عقدٌ» على تقاسم كل شيء بين «حزب الله» وحلفائه، ورئاسة التيار الوطني الحر من دون حلفاء، أو أنّ حلفاء الحزب هم حلفاء الرئيس بما في ذلك النظام السوري، والنظام الإيراني. ويشمل التقاسُم: وجود جيشين أو جيش وميليشيا بحجة أنّ الجيش ضعيف، وتغيير قانون الانتخابات بحيث تكون هناك مناصفة فيه تبينت بعد إجراء الانتخابات وتشكيل الحكومة العتيدة، وإقرار المناصفة في الوظائف العامة بين الفريقين، وإقرار المناصفة أو المشاركة في السيطرة على المؤسسات والجهات النافذة مثل المطار والمرفأ والجمارك ووزارة الطاقة. وكل ذلك أدى ويؤدي إلى ما ذكره الرئيس السنيورة في مطالعته: تعديل الدستور أو تغييره بالممارسة، والإطباق على كل ما يُعتبر دولة أو شأناً أو قطاعاً عاماً. وفي ظلّ ذلك كلّه ذابت رئاسة الحكومة بالتدريج حتى ما عادت موجودة. وإذا تحجج أحدٌ أو احتجّ؛ فإنّ الفريقين يقولان: كلها قراراتٌ في مجلس الوزراء، بما في ذلك وظائف الفئة الرابعة أو الخامسة في الإدارات! أكبر الإنفاق والهدر أتى في السنوات الفائتة، كما تشير إلى ذلك أرقام الموازنات والقروض في قطاع الكهرباء، والذين قاموا بذلك من الفريقين هم الذين يتصدون الآن لمكافحة الفساد، وبالطبع في غير الكهرباء والجمارك والمطار: مثل التوظيف في وزارة الاتصالات، والـ11 ملياراً التي أنفقتها حكومتا الرئيس السنيورة بين عامي 2005 و2009 لتسيير المرفق العام، وسط إقفال مجلس النواب من جانب الرئيس بري.
ما كانت التسوية إذن بين فرقاء هم الجنرال عون، ونصر الله وبري، والحريري، وجعجع وجنبلاط؛ بل بين الحزب والجنرال الذي صار رئيساً، وقد قال النائب الموسوي في مجلس النواب إنّ الرئيس وصل للرئاسة بفضل بندقية المقاومة. ورغم ذلك كله حاول الرئيس سعد الحريري استنقاذ مالية البلاد واقتصادها بمؤتمر «سيدر» الباريسي، كما استنقذ والده الرئيس رفيق الحريري المالية والاقتصاد بين عامي 2001 و2004. ويحصل الآن كما حصل في السابق. أيام رفيق الحريري كان السوريون المسيطرون ضد مؤتمرات باريس، وبالفعل ما أمكن الإفادة من نتائجها كما يجب. واليوم يقف الحزب ضد «سيدر» لأنّ إيران بزعمه تستطيع إمدادَ لبنان بكل شيء بما في ذلك الأدوية العجيبة القدرة!
بالطبع لن تُنفَّذ مقررات مؤتمر «سيدر»، لأنّ معظمها قروض، وسيراقب المقرضون كيف تُنفَقُ أموالهم ولا يناسب ذلك بالطبع الحاكمين، وهي تتطلب قوانين وإجراءات ينبغي أن يهتم بها رئيس مجلس النواب، وهو بدلاً من أن يفعل ذلك، يوحي إلى وزير ماليته بملاحقة إنفاق الرئيس السنيورة قبل عشرة أعوام.
ولنعُد إلى مطالعة الرئيس السنيورة. هو لم يتحدث عن إمكانيات إنفاذ «سيدر». لكنه وبعد عرض وقائع إنفاق الـ11 مليار دولار توصل إلى استنتاجات سياسية تقع في أساس اختناق الدولة والنظام: استيلاء الدويلة على الدولة وقرارها السياسي والعسكري، وتوريطها في حروبٍ ونزاعات، واستتباعها لصالح نظامٍ أجنبي، ونشر الفساد والإفساد والطائفية، والخروج على الدستور، وتسليط أمراء الطوائف الذين وصلوا للسلطة ببندقية الحزب!
لقد قاد الحزب الفساد الكبير، وشارك مع حلفائه وصنائعه في الفساد الداخلي القائم على نهب المال العام. سيقول رجال الدولة: لكنّ هدر المال العام ونهبه ليس هيناً. ويجيب منطق الرئيس السنيورة: إنّ الدولة هي التي لا تسيطر على قرارها السيادي، وتُستتبَعُ لهذا المحور أو ذاك، وليست لها سلطة على أرضها ومرافقها العامة، ولا تملك القدرة على ضبط الإنفاق العام بل ولا يقبل المسيطرون المحاسبة والمراقبة. وقد عرض الرئيس السنيورة لذلك ثلاثة أمثلة؛ الأول: عدم قيام ديوان المحاسبة بالرقابة اللاحقة للإنفاق العام لأعوام كثيرة. والثاني: أنه في عام 2006 عرض على مجلس النواب مشروع قانون كررتْ عرضَه كتلةُ المستقبل النيابية أكثر من مرة لتكليف مؤسسة استشارية دولية للرقابة والإفصاح والترشيد، وبقي في الأدراج. والثالث: عدم قيام المدير العام للمالية (وهو في منصبه منذ عام 1999) بمهامه الموكلة إليه في المتابعة والتسجيل والتدقيق وعرض الأمور كما هي، بدلاً من الاستنتاج الآن أنّ هناك فجواتٍ وهدراً، غابت عن انتباه المدير العام وعروضه عقداً كاملاً.
هذان المستويان: المستوى السيادي، والمستوى المالي- الاقتصادي، متلازمان. ولذا فإنّ أي إصلاحٍ في المال والاقتصاد ينبغي أن يتأمل ويدرس الأمرين معاً. ولا يمكن إصلاح أحدهما إلاّ بالانتباه في الوقت نفسه إلى صلاح الآخر أو إصلاحه. ثم هناك المستوى الثالث، وهو يقبع في رأس السلطة.
كان الرهان على «التسوية» من جانب أنصارها أن تكون فرصة للتوازُن الوطني، واستعادة الزمام ومنطق الدولة في السياسات الداخلية والخارجية. لكنّ منطق الميليشيا هو الذي ساد، حتى بين أهل المؤسسات الدستورية. ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك الجلسة قبل الأخيرة لمجلس الوزراء. فقد جادلت وزيرة القوات اللبنانية وزير شؤون اللاجئين، لذهابه إلى سوريا من دون قرارٍ من الحكومة. فغضب رئيس الجمهورية وفضّ الجلسة بالضرب على الطاولة، من دون اعتراض من رئيس الحكومة، وهو رئيس مجلس الوزراء، وليس رئيس الجمهورية. فلاحظ الرئيس السابق لمجلس النواب حسين الحسيني، أنّ رئيس الجمهورية بمثابة الحَكَم من دون صفّارة وليس من صلاحياته فضّ الجلسات. وليست المسألة هنا في الصلاحيات فقط؛ بل في مدى اختلال المنطق. لقد ذهب إلى سوريا نحو عشرة وزراء، ومن المفروض أنّ عندهم فكرة أو عرضاً من جانب النظام السوري. والروس عندهم مبادرة. فلو أنّ الرئيس يريد حلَّ مشكلة النزوح، إذ ما عاد عنده هو وباسيل وبري حديث غيرها، فقد كان عليه أن يقترح على الرئيس الحريري عقد جلسة خاصة لدراسة العروض والتوافق على ما يناسب المصلحة الوطنية. أما الواقع فهو أن النظام السوري لا يريد عودة نازحيه. وما قالها لنا الروس فقط؛ بل قالها الملك عبد الله الثاني الذي كان عنده الرئيس بري أيضاً. والرئيس عون يعرف ذلك كلّه، لكنه لا يريد غير العلاقة مع النظام هناك، أما النازحون فيظلون للاستخدام في التحريض الطائفي، والزعم أنهم يهدّدون الهوية. مجلس الوزراء في هذا العهد هو ساحة للعب الفريق الواحد من أجل الاستيلاء والتقاسم وزيادة الاختلال.
هذا الاختلال كله هو الذي نبَّه إليه الرئيس السنيورة في مطالعته الكاشفة. والحملة على الرئيس السنيورة من الفريقين ذاتيهما منذ عام 2007 هذه علتها وهذا سببها. ولذلك فإنّ الأمر الآن بتصرف الوطنيين اللبنانيين. فقد أعلن الرئيس السنيورة عن استمرار الصراع على لبنان وطناً ودولة ومجتمعاً، وعدم الخضوع لمنطق الميليشيات الطائفية والزبائنية. ومن لم يتنبه اليوم، لن يتنبه غداً.
نقلًا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع