توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بين الدولة القومية والدولة الوطنية

  مصر اليوم -

بين الدولة القومية والدولة الوطنية

بقلم: رضوان السيد

أثارت الحرب الروسية على أوكرانيا مسألة قديمة تتعلق بآيديولوجيا الدولة - الأمة التي تبلورت في القرن التاسع عشر، وقيل إنها حلت محل عوالم الإمبراطوريات. الإمبراطوريات كانت تتوسع لدوافع وطموحات استراتيجية. أما الدول القومية فبزعم الحق والاستحقاق. إذ من حق كل أمة أن تكون لها دولة. وقد تبدأ الدولة على قسمٍ من أرض الأمة ذات اللسان الواحد أو الإثنية أو حتى الجغرافيا. ثم ترتئي النخبة الحاكمة في ذاك الإقليم أن «توحد» الأمة في دولة فتغزو وتتوسع. وهكذا توحدت إيطاليا وألمانيا. لكن التعطش القومي لا يتوقف. ولذلك سعى هتلر للتوسع باتجاه الأقاليم الألمانية في بولندا وفي تشيكوسلوفاكيا. وتحت وطأة الطموحات القومية للدولة - الأمة ثارت الحرب العالمية الثانية (بل وربما الأولى!)، حيث حاولت بريطانيا وفرنسا الحيلولة دون استيلاء أدولف هتلر على غرب أوروبا وتارة باسم توحيد الأمة الألمانية في دولة، وطوراً من أجل خلْق «المجال الحيوي» أو شريان الحياة لألمانيا بين شرق أوروبا وغربها.
لا يعكس اسم «عصبة الأمم» ولا «الأُمم المتحدة» التطور الذي حصل نتيجة الحربين. فما يزالان يتحدثان عن الأمة والأمم، والحقيقة أنه صار هناك نفور شديد من الدولة القومية، وظهر الطموح إلى دولٍ وطنية مستقرة ذات حدودٍ ثابتة ولا تتحرك فيما وراء حدودها حتى لو كانت على مقربة من هذه الحدود أقلياتٌ أو إثنياتٌ تدعي الانتساب إلى شعب الأمة فيما وراء الحدود. فبالتدريج حل مصطلح National State محل Nation - State، وبدلاً من التركيز على حقوق الأقليات المختلفة عن إثنية الأكثرية، صار الحديث عن التعددية وعن دولة المواطنة، وإذا كان ذلك قد بدا سائداً في أوروبا بعد الحرب الثانية؛ فقد ظهرت مشكلات تتعلق بمعنى الهوية القومية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية منذ إعلان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1920 عن حق تقرير المصير لكل القوميات، أو حقها (مهما صغرت؟) في إنشاء الدولة الخاصة بها! فهل على ذلك استند مسلمو الهند أو كثرة منهم في الانفصال عن الهند وإنشاء باكستان؟ وهل يمكن للدين أن يشكل هوية قومية؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا انفصل البنغاليون عن باكستان وأنشأوا بنغلاديش مقدمين الهوية الإثنية على الدينية. وهل استناداً إلى ذلك استولى الصهاينة على فلسطين باعتبارهم قومية، ثم ها هي دولة إسرائيل تصبح دولة يهودية؟ على كل حال ما أمكن تصفية الآثار القومية للدولة - الأمة في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. وها هي القومية ذات البعد الديني تتعملق بالهند وقبلها بميانمار ومثلهما حتى في الصين الشيوعية ودائماً في مواجهة الإسلام!
المسألة بين روسيا وأوكرانيا مختلفة بعض الشيء. فلروسيا ثلاثة مواريث: إمبراطورية وقومية واشتراكية. وقد نجحت روسيا في حقبتها الذهبية الاشتراكية أن تجمع بين المواريث الثلاثة فتؤلف بينها وتظل قائدة فيها، وزعيماً لتحالف عالمي من أجل العدالة والسلام. وما تفكك التحالف الأممي هذا تحت وطأة الضغوط الأميركية والشعبية الداخلية؛ بل وبسبب العجز عن تحمل الأعباء وتكاليف الإنفاق. وهذا هو تحليل المؤرخ الأميركي بول كينيدي في كتابه بعنوان: صعود الإمبراطوريات وسقوطها - ومنذ أيام الساسانيين والرومان إلى الإمبراطورية البريطانية والنمساوية والعثمانية. وعندما سقط الاتحاد السوفياتي وقام الاتحاد الروسي تكونت من المنفصلين عنه (وعن روسيا) ثلاث عشرة دولة، وتبين أن 15 في المائة من الروس يقيمون خارج حدود الدولة القومية الروسية. وفي روسيا نفسها 15 في المائة من السكان من إثنيات مختلفة. ما عادت روسيا اشتراكية أُممية ولا إمبراطورية؛ لكنها أيضاً - ليست دولة قومية مكتملة ما دامت هذه النسبة من الروس مقيمة خارجها! وصحيح أن بوتين فرض على الدول الإسلامية المنفصلة تحالفاً ووزع قواعد ومحطات؛ لكنه ما سُر لتحول الدول الجديدة التي تعتبر نفسها أوروبية إلى مخاصمة روسيا أو الانفصال التام عنها بالانتماء للاتحاد الأوروبي وحتى لحلف الأطلسي. لقد مضى عام 2008 فضرب وحدة جورجيا. ومضى عام 2014 فانتزع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا. وبحججٍ مختلفة؛ مرة ً بسبب معاداة روسيا، ومرة لأن القرم أرض روسية والناس أكثرهم روس. وهو متحير الآن بالتصرف كما تصرف تجاه بيلاروسيا، أي إقامة حكومة موالية لروسيا - أو التصرف تصرف الدولة - الأمة بانتزاع أجزاء من أوكرانيا بزعم أنها روسية (إقليم دونباس). وهو سائر الآن بالاتجاه الثاني وليس كما بدا أولاً، وهذا حبلٌ من مسد، فالإثنيات والمصالح الروسية التاريخية منتشرة على مساحة واسعة ومرة في الإثنية واللسان ومرة في الموارد الاقتصادية، ومرة في الدين الأرثوذكسي!
الدولة القوية تستطيع التصرف قومياً وإمبراطورياً. إنما حتى في حالتها لا ينبغي الوقوع أيضاً في عجز الإمبراطوريات أو شيزوفرينيا القوميات. لقد تصرفت روسيا الاتحادية تصرفاً إمبراطورياً في سوريا، وهي تتصرف قومياً في أوكرانيا وما جاورها من أوروبا. فإلى متى تستطيع ذلك وبالعسكر أو بالقوة الخشنة وحدها؟
وقد مضى علينا نحن العرب زمان (بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي)، ما بقيت محاولة للوحدة وإنشاء دولة الأمة إلا وقمنا بها بقيادة مصر. ثم كانت هزيمة العام 1967 التي تمر ذكراها هذه الأيام - فتوالت بعدها الانكماشات العدوانية لما سماه البعثيون الدولة القُطرية، وهم الذين أنشأوا هذه الكيانية العجيبة في سوريا والعراق. وقد ثبت بعد تجارب ممضة أن أكثر الدول ذات الدعوى القومية هي الأكثر هشاشة وقابلية للتصدع والانقسام. فمنذ غزو العراق للكويت حتى العمل العربي المشترك ضمن الجامعة العربية صار شبه متعذر. ومنذ العام 2011 تفككت سوريا وتهجر نصف شعبها، والإيرانيون يتوسعون فيها سراً، أما الأتراك فيريدون التوسع علناً! فهل تصرفهما إمبراطوري أم قومي؟
لا أدري ماذا تكون العبر والدروس من الحروب القومية من جانب الدول القوية أو التي تبدو كذلك. أما من جانبنا نحن العرب فالذي أراه أن الدولة الوطنية، دولة الاستقرار والتنمية والمواطنة، ينبغي أن تظل الواقع والمطمح ودون أوهامٍ بالتوسع ولا استضعاف تجاه الجوار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين الدولة القومية والدولة الوطنية بين الدولة القومية والدولة الوطنية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon