بقلم: رضوان السيد
منذ أكثر من 5 سنواتٍ ما عرفت شوارع مدينة طرابلس الليبية مظاهرات أو تجمعات احتجاجية. لكن ما لم يكن يُتصور حدوثُه وقع. وحدث ذلك من أجل الماء والكهرباء والمرتبات واستيلاء السلاح على أمن المدينة وحياتها. وقد أقبلت قوات الأمن الليبية والميليشيات المؤيدة لحكومة الوفاق على إطلاق النار على المتظاهرين، وانصرف فائز السراج رئيس الحكومة إلى شتمهم، باعتبار أن الوقت ليس ملائماً للتظاهر!
وما حدث بليبيا، حدث مثله في سوريا والعراق ولبنان والسودان في الأسابيع الأخيرة. فقد عادت المظاهرات في النواحي التي حدثت فيها مصالحات بنواحي درعا، كما اندلعت اضطراباتٌ في النواحي التي يسيطر عليها الأكراد، وأخرى في إدلب وقراها. والأسباب تتعلق بالماء والكهرباء والمواد الغذائية، لكنها تتعلق أيضاً بالاغتيالات! وإذا اعتبرنا الاغتيالات في المناطق الخاضعة للنظام الأسدي ناجمة عن الصراع بين الروس ومن معهم، والإيرانيين و«حزب الله» ومن معه، والميليشيات المتنوعة التي تدعم النظام، وأخيراً وجود مخيمات اللاجئين السوريين الكثيرة والذين لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم، إما بسبب خرابها أو منع أهلها بالقوة القاهرة؛ فإن المظاهرات في المناطق الخاضعة للأكراد والأميركيين في شمال شرقي سوريا أخيراً احتجاجاً على الاغتيالات؛ ليس لها غير مرتكب واحد هو القوة السائدة هناك؛ حيث وقعت اغتيالات لشيوخ القبائل والعشائر الذين ظهر تذمرهم بسبب الضيق المعيشي والمعاشات التي لا تُدفع، والاستيلاء على الممتلكات بحجج واهية، وما يسمونه هم التغيير الديموغرافي الذي عانى منه السوريون أشد المعاناة منذ العام 2013 وما يزال الوضع على النحو نفسه حيث تسود قوة قاهرة في ناحية من النواحي تزعجها الكثرة الشعبية العربية المختلفة مذهبياً أو إثنياً!
والطريف أنه في بلدين متباعدين مثل العراق والسودان؛ فإن أسباب الاغتيالات متشابهة، وهي تتمثل في الضيق المعيشي بحيث يقدم المسلحون على إطلاق النار لأنهم يعتبرون أن المظاهرات تستهدفهم، وتُهدد السيطرة التي تعودوا عليها، في حين لا يقبل أحدٌ أن يصبح الاستبداد عادة يجازى الخارج عليه وعليها بالموت. وقد قال متظاهرٌ بالبصرة؛ الموت واحد سواء أكان بسبب الجوع، أم بسبب إطلاق النار!
ويريد المراقبون الذين يقارنون بين المظاهرات والاغتيالات في العراق وليبيا من جهة، وروسيا البيضاء من جهة ثانية - التمييز بأن متظاهري روسيا البيضاء يموتون من أجل التحرر من الاستبداد، بينما لم يثر الآخرون إلا بسبب الضيق المعيشي الشديد، وليس بسبب الافتقاد الشديد للحرية! لكنّ الإعلاميين الأميركيين الذين يعملون في العراق وليبيا اعتبروا تلك المقارنات ظالمة جداً لأن متظاهري طرابلس والبصرة يعتبرون غياب الكهرباء في ظل حرارة الصيف الشديدة، علتُه الفساد الذي تتسبب فيه الميليشيات والمرتزقة الذين يعملون عند جهات أجنبية تسيطر في البلاد. فالانتشار الميليشياوي مرتبط بالأجنبي، ولا بد من الخلاص منهما.
ووضْع بيروت وضْع شديد الغرابة. فقد بدأت المظاهرات فيها بسبب الضيق المعيشي والانهيار الاقتصادي قبل 10 أشهر. وقد تمتع المتظاهرون بفترة «سماح» لمدة 3 أشهر قبل «كورونا». لكن تلك الحشود الغاضبة والمحتفلة بالحريات المنتزعة، ما استطاعت إحداث أي تأثيرٍ يستحق الذكر؛ في حين يزعم بعض زعماء المتظاهرين أنهم أسقطوا حكومتين، من دون أن تعترف لهم بذلك قوى الأمر الواقع. ففي كل مرة كان فيها حشد يتجمع بساحة الشهداء، كان هناك حشد آخر يواجهه ويحاول الاعتداء عليه، ويُصرح من خلال شعاراته أن الاختلاف الطائفي وليس السياسي أو الاجتماعي هو بسبب النزاع! ثم في المدة الأخيرة، صارت عناصر ترتدي ملابس القوى الأمنية تطلق الرصاص الحي كما يقال على المتظاهرين. وما حصلت اغتيالات بين المتظاهرين في بيروت والمدن الأخرى، إنما صار واضحاً أن السلطة بيد من. ثم حدثت كارثة تدمير مرفأ بيروت وثلث المدينة في انفجار مهول، فتكشف المشهد عن حقائق كانت معروفة ومسكوتاً عنها منذ البداية، الترابط بين السلاح والفساد، وحماية السلاح الميليشياوي لفساد السلطة وسوء إدارتها لمرافق البلاد المتصدعة والمتداعية. وتردد المتظاهرون كثيراً في التصريح، لكنّ البطريرك الماروني، ومفتي المسلمين، صرّحا بذلك، فثارت ثائرة الميليشيا وأنصارها، واتهموا أعداء «المقاومة» بالصهيونية!
فهل الطغيان والانقسام الطائفي والفساد والميليشيات التابعة للخارج، كل ذلك من خصائص المجتمعات العربية في زمن انهيار الدولة الوطنية؟ لا تكاد توجد نخبة ثقافية في العالم كانت مصرة على الدولة وجوداً ووظائف، مثل النخبة الثقافية - السياسية العربية، ومنذ أكثر من 100 عام. لكنّ النخب السياسية المثقفة الأولى سرعان ما توارت بجل المشرق والجزائر لصالح العسكر، وأدى طول استبداد العسكر إلى تصدعات اجتماعية وثقافية ودينية ومذهبية، أعانتها جهات خارجية، فسقطت تجربة الدولة الوطنية العربية بعد أن كانت قد تجمدت في الحرب الباردة. وتسود اليوم في البلدان العربية التي ذكرناها صيغٌ مختلفة للفشل، منها الصيغة اللبنانية التي صارت فيها الدولة عائشة تحت رحمة الميليشيا وفسادها ونشرها مخزونات سلاحها في المرفأ والمطار والأحياء السكنية بحجة حماية البلاد من العدو الصهيوني!
لقد ظللت لسنوات أكرر كلام الأستاذ الراحل نزيه الأيوبي في كتابه «تضخيم الدولة العربية» الصادر عام 1994: لقد عرفنا النخب السياسية الفاسدة، ثم عرفنا العسكريين العقائديين الفاسدين، وها هي طلائع الميليشيات الإسلامية القاتلة تنشر عقائدية جديدة للإجرام باسم الاستحلال. كنا نرى أن أنظمة الحكم العسكرية هي من صناعة الحرب الباردة، فمن أين أتت الميليشيات الجهادية ذات الدعوى العريضة؟! فلنعرف أن الأميركيين وغيرهم سيستخدمونها، وسيألفونها، أما شعوبنا المصابة بها فلن تألفها بالطبع!
إن بلداً مثل ليبيا لا يستحق بالفعل حاكماً كالقذافي، ولا ميليشيا مثل ميليشيا بلحاج! وكذلك الأمر مع بغداد ودمشق في عهدي الاستبداد والميليشيات. أما بيروت على وجه الخصوص فإنها لا تستحق حتماً أن يجتمع عليها الجنرال النائم، والزعيم المعصوم الهاجم.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.