عندما تستمع إلى إحدى الفضائيات اللبنانية هذه الأيام، تجد أن الأخبار فيها تتوزع بشكلٍ رئيسي على ثلاثة عناوين: اتجاه الثنائي الشيعي للتفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود، ومسألة تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري ومواقف السياسيين، والحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان. وتتقدم أخبار الحرب في القوقاز حتى على الانتخابات الأميركية، فضلاً عن أوضاع الانهيار الاقتصادي والموجة الجديدة لوباء «كورونا».
الفضائيات اللبنانية أرسلت كلها «مراسلين حربيين» إلى أرمينيا وأرتساخ (كما يسمي الأرمن ناغورني قره باغ)، ومن الطبيعي أن يعرضوا وجهة النظر الأرمنية. ويمكن تعليل ذلك بوجود أقلية أرمنية في لبنان (هاجر ثلثها إلى دولة أرمينيا خلال ثلاثة عقود، كما هاجر رُبعهم أو ربعها إلى الدول الغربية). والأمر نفسه يمكن قوله عن أرمن سوريا.
تعود القضية الأرمنية في زمانها الحديث، إلى الحرب العالمية الأولى، وقد امتلكت مثل الأكراد والمسيحيين (اللبنانيين) واليهود حُلُم الدولة القومية على أنقاض الدولة العثمانية المتصدعة. وقد حصل المسيحيون على لبنان الكبير (1920)، كما حصل اليهود على وعد بلفور (1917) بالوطن القومي اليهودي. أما الأرمن فلم يحصلوا إلا على مذبحة عام 1915، والتي أقْصت المطمح الأرمني عن أرض الدولة التركية إلى الأبد، في حين ظلّ الحُلُم الكردي موزعاً على ثلاث دول أو أربع، وبعد قرابة المائة عام، ما تحقّق غير الحكم الذاتي في كردستان العراق!
في عام 1923 - 1924 حقق ستالين للأرمن حُلُم الكيان ذي الحكم الذاتي في أكبر تجمعٍ لهم في القوقاز، والعاصمة يريفان. ومنذ ذلك الحين نما في الوعي الأرمني هدف الدولة - الأمة. فصارت الجمهورية الصغيرة دولة الأمة الأرمنية، مثلما صارت إسرائيل فيما بعد دولة الشعب اليهودي. أما الإقليم الجبلي المجاور لأرمينيا (جبل الغابة السوداء)؛ فقد ضمه ستالين إلى أذربيجان، مع أن فيه كثرة سكانية أرمنية. فلمّا سقط الاتحاد السوفياتي عام 1990، انتهز الأرمن الفرصة وحاولوا استعادة ما اعتبروه جزءاً من أرض الأمة. وقد ساعد الجميع بمن فيهم الإيرانيون أرمينيا (هناك أكثرية شيعية في أذربيجان، بيد أن الشعب الآذري من أصول تركية)، وما تدخلت تركيا علناً، فطردوا الجيش الآذري من الإقليم، وظلّ الوضع مقلقاً؛ لأن الإقليم ما انضمّ إلى أرمينيا، ولا أعلن استقلاله، وتشكلت مجموعات (منها مجموعة مينسك) للوساطة، ومجلس الأمن والتعاون الأوروبي، ونشب القتال مرات عدة من جديد، وصار وقف النار رهناً بالضمانة الروسية، وقد سارع الروس لعقد تحالف للحماية مع أرمينيا، فانحمى الاستقرار نسبياً، لكن الأرمن ذوي الميول الغربية ما عاد يمكن لهم الحراك خارج قبضة موسكو. ومضت أذربيجان انتقاماً باتجاه التحالف مع تركيا وإسرائيل!
لقد عاد الآذريون إلى إنشاب الحرب، ويبدو أن الإعداد للقتال كان يجري منذ مدة؛ لأن الأتراك أعلنوا فوراً عن دعم أذربيجان، وأرسلوا الأسلحة والخبراء، وألفين من المرتزقة السوريين (!)، في حين ما بدا أنصار أرمينيا متحمسين هذه المرة حتى روسيا وإيران. بينما سارع الأرمن من سائر أنحاء العالم للتطوع من أجل الدفاع عن أرمينيا والإقليم، باعتبار أن أرمينيا هي دولة الشعب الأرمني، كما هي إسرائيل دولة الشعب اليهودي.
لكن التضامن مع أرمينيا لا يقتصر على الأرمن في أنحاء العالم؛ بل هو ظهر في المنطقة أيضاً بين الأقليات المسيحية والكردية. إذ كل الأقليات تخشى التصدع والاستقطابات الحاصلة في الدول الوطنية بالمنطقة، وتعتبر أن الأمان في الدول والكيانات الوطنية والقومية الخاصة ولا شيء أقلَّ من ذلك. وهكذا؛ فالتضامن في لبنان (المسيحي) مع الأرمن، ليس قاصراً على الأقلية الأرمنية، بل هو يعبّر أيضاً عن تماثُل الحالة (أقلية مسيحية وأكثرية مسلمة)، وعن الخوف على المصير.
لماذا العودة إلى القتال الآن؟ يقال بسبب أنابيب النفط والغاز، بل وإمكان وجود ثروة بترولية في الإقليم. أو أن تركيا النصير الأول لأذربيجان وجدت الموقف مناسباً الآن، ما دامت هي تخوض المعارك في كل مكان لإزعاج الجميع!
ما طمحت أذربيجان (حتى الآن على الأقل) إلى دخول الإقليم وتحريره من العسكر الأرمني. بل حتى الآن يطالب الآذريون بانسحاب الجيش الأرمني من الإقليم وحسْب. ويبدو الأرمن سريعي الاستجابة للسلم، باعتبار أنّ الإقليم معهم ويخشون فقده. ولا يبدي الآذريون حماساً للقتال، لكن الأتراك شديدو الحماس تماماً مثلما حدث في ليبيا. وقد رضي الطرفان تحت ضغط الروس ومن موسكو بالهدنة لأسبابٍ إنسانية. بيد أن كلاً منهما لا يزال يزعم أن الآخر يخرق الهدنة ويوقع خسائر بالمدنيين.
إن التحدي أولاً وآخراً يقع على عاتق روسيا، التي يكون عليها جمع الطرفين (وقد فعلت)، وفرض حلّ بعد وقف النار أو العودة لفرض الهدوء كالسابق وإن تعذر الحل.
إن الملاحظ أن الدولاب يدور عكس السابق. كانت روسيا في موقع الهجوم في أماكن عدة بالقوفاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. لكنها الآن في حالة دفاع تناضل للخلاص منها في أوكرانيا وروسيا البيضاء وأرمينيا. وفي كل هذه الأماكن تبدو «الشعوب» ضد الفرض الروسي للهدوء أو الانضباط.
لكن المعسكر الآخر الأوروبي - الأميركي شديد الاضطراب أيضاً؛ فبين أوروبا وأميركا ما صنع الحداد. ثم إن تركيا تتمرد على الجميع في شرق المتوسط.
المفروض أن الدولة الوطنية لا تزال هي عماد «النظام الدولي». ونموذج التعامل مع الاستفتاء الكردي في العراق على الاستفتاء وفشله يدل على أن تغيير الحدود لا يزال غير ممكن. لكن قواعد النظام التي كان الاعتراف بها سائداً حتى في الحرب الباردة ما عاد يعترف بها لا الصغير ولا الكبير. بل إن الدول الكبرى نفسها هي التي تتصارع على التقاسم. ولننظر ماذا يحدث في فلسطين وسوريا وماذا حدث في القرم.
يبدو الجميع الآن متعبين جداً بسبب الانهيار الاقتصادي، ومصائب «كورونا». فهل هناك إمكانية ليجلس الجميع إلى طاولة التفاوض؟! حتى الآن لا يريد أحد من المتنازعين الاعتراف بالحاجة إلى ذلك. فالتفاوض يتحدث عنه الأوروبيون فقط. وهو عندما يحدث لا يريد أحد التنازل عن شيء!