بقلم: رضوان السيد
خلال أقلّ من ستة أشهر، صارت خطابات البطريرك الماروني وعظاته واجتماعاته هي الأبرز بين التحركات الداخلية والخارجية الساعية لإنقاذ النظام والكيان. فمنذ أكثر من عام كان البطريرك بين أبرز المستجيبين لمطالب المنتفضين في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. لكن عندما انخفضت أمواج التظاهر في الشارع للتصادم مع جمهور الثنائي الشيعي، والمواجهات مع قوات الأمن والجيش، وتأثير إجراءات مكافحة وباء «كورونا»، صارت عظات البطريرك هي الغذاء الأسبوعي لفئات الطبقة الوسطى من كل الطوائف. بدا مطلب البطريرك الأول؛ وهو تشكيل حكومة بحسب المبادرة الفرنسية، بديهياً وعليه شبه إجماع. ثم تطور الأمر إلى إدانة من يعارضون أو يعرقلون التشكيل الضروري، فإلى مطلب تحرير الشرعية. وعند هذا المطلب الذي لم يتوقف عنده البطريرك طويلاً، تحدد لدى المستمعين من يقصد البطريرك بأسْر الشرعية أو تطويقها: السلاح غير الشرعي، ورئيس الجمهورية وأنصاره. وبالتدريج اكتشف البطريرك «الطائف» و«الدستور» و«وثيقة الوفاق الوطني»، ثم مضى للمطالبة بالحياد، فإلى المؤتمر الدولي.
في عهد الرئيس عون؛ بل وقبله صارت البلاد منصة رئيسية لإيران وميليشياتها في التدخل في سوريا واليمن، بل وفي اختراق النظام المالي والأمني للبنان، والنظام السياسي بعامة، بحيث ارتهن الحزب المسلَّح المؤسسات الدستورية جميعاً، من خلال التحالف مع الجنرال عون وإيصاله للرئاسة في البداية؛ والآن بشكل مباشر وبغير حاجة لدعم الجنرال الرئيس إلا على سبيل المجاملة ورفع العتب. ووسط الانهيار الشامل الذي سقطت البلاد في وهدته بدا الحزب عاملاً رئيسياً في ذلك، وبقيت للرئيس قدرة إعاقة تشكيل حكومة تتصدى للانهيار بحجج وذرائع مختلفة، يدعمه في معظمها المسلَّحون؛ إنما باعتبارهم حَكَماً منصفاً ونزيهاً وصاحب همٍّ وطني!
تحالف الميليشيا والمافيا، كما قال باحثٌ لبناني شاب، هو الذي يبدو البطريرك مصمماً على مواجهته؛ تارة بشعار «تحرير الشرعية»، وطوراً بـ«وثيقة الوفاق الوطني» و«الدستور» وتشكيل «حكومة مهمة»، فإلى الحياد ومناداة المجتمع الدولي. ورغم الوخزات والوكزات التي وجهها البطريرك الراعي للحزب والرئيس؛ فإن الغضب لدى الحزب ما بدا عالي الوتيرة إلا مع المطالبة بالحياد، ثم بالمؤتمر الدولي. لقد قصد البطريرك بالحياد عدم الدخول في المحاور، ومعروف الطرف المقصود بذلك؛ ولذا جرى اتهامه بإلغاء هوية لبنان، وبفتح الباب لإسرائيل... إلخ. أما في دعوته للمؤتمر الدولي من أجل لبنان، فقد استحضرت مساوئ التدويل، وقال زعيم الحزب المسلح: البطريرك عَمْ يمزح، وهذا معناه الحرب! وأجاب البطريرك بأن الحياد هو مقتضى الدستور اللبناني، وهو حيادٌ إيجابي وهدفه الحيلولة دون التدخل المدمِّر في الشأن اللبناني الداخلي الذي أفضى إلى الحصار والانهيار. أما اللجوء للمجتمع الدولي فليست هي المرة الأولى. فالقرارات الدولية هي التي أنقذت لبنان منذ الستينات والتي جاءت جميعها على أثر تدخلات كادت تعصف بلبنان؛ من منظمة التحرير، وإلى إسرائيل وسوريا، والآن إيران!
الكاتب المعروف سام منسى نشر في صحيفة «الشرق الأوسط» يوم الثلاثاء 9 - 3 - 2021 داعياً المسلمين إلى دعم مبادرات البطريرك. وهو يقصد بذلك المسلمين السُنة، بحسبان أن معظم الشيعة اللبنانيين؛ جمهوراً وسياسيين، ليسوا مع مبادرات البطريرك، وهذا أقلّ ما يقال. وما قاله منسى قاله مسيحيون آخرون، مثل الدكتور فارس سعيد. والمقصود الدعم من جانب دار الفتوى والسياسيين السُنة، خصوصاً رؤساء الحكومة السابقين. أما الجمهور السني فكله مع البطريرك ودعوته. والواقع أن التردد لا يأتي من السياسيين السُنة فقط، بل ومن بعض المعارضين المسيحيين للرئيس وللحزب. وسببه أنه من الصعوبة بمكان ترتيب موضوع الحياد من دون إجماع وطني، كما أن المضي إلى الأمم المتحدة دونه صعوبات كثيرة الآن، أو أن الظروف ليست مهيأة له. لكن الأمر ليس بالصعوبة التي يتصورها هؤلاء؛ لا لجهة الحياد، ولا لجهة المؤتمر الدولي. فلجهة الحياد المقصود عدم استمرار سيطرة الحزب على لبنان وقراره وتبعيته لإيران، وبالتالي التسبب في تفاقم الانهيار واستمراره. وهذا يرتبط مباشرة وبوضوح بما سمّاه البطريرك مؤتمراً دولياً من أجل لبنان. إذ هناك قرارات دولية لم تنفَّذ مثل الـ«1559» والـ«1701». وإذا كان الـ«1701» متعلقاً بالنزاع مع إسرائيل، فهو متعلق أيضاً باختفاء المسلحين من جنوب لبنان فلا تبقى إلا القوات الدولية والجيش اللبناني (وهو الأمر الذي لم ينفذ في الجنوب ولا في غيره)؛ فإن القرار «1559» منذ عام 2004 صدر ضد الميليشيات والجيش السوري والميليشيات الفلسطينية، وما نُفّذ منه غير الجزء السوري، وبقي مسلّحو الحزب والمسلحون الفلسطينيون خارج المخيمات. أما القرار رقم «1680»؛ فصدر لإنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. وهكذا؛ فلو لم يكن في مطلب البطريرك بالمؤتمر الدولي غير تطبيق القرارات الدولية لكان كافياً. فكيف وقد وصلنا إلى مهاوي الدولة الفاشلة التي تبرر التدخل الدولي أيضاً وأيضاً.
ولنعد إلى مبادرات البطريرك والمسلمين. هناك بالطبع إلى جانب الجمهور السني المتحمس للبطريرك أصوات منفردة لسياسيين سنة مع البطريرك، مثل الرئيس السنيورة وبعض النواب. وقد ذهبتُ مع «التجمع الوطني» و«سيدة الجبل» و«حركة المبادرة الوطنية»، ونحن؛ مسلمين ومسيحيين، إلى بكركي وناقشنا جميعاً وأيدنا البطريرك. وقد دعا النائب نهاد المشنوق أخيراً إلى جبهة وطنية موسعة لدعم مبادرات البطريرك باعتبارها تمثل كل اللبنانيين ومصالحهم ومستقبلهم. نعم؛ لقد كبرت المشكلة، وما عادت المسألة مسألة تشكيل حكومة، بل هي أزمة وجود؛ كما قال البابا فرنسيس أخيراً عن لبنان. فلا يصح أن يبقى الطموح السني قصراً على تمكن الحريري أو تمكينه من تشكيل حكومة أياً كانت... بل هي هزة كبرى يمكن أن تضرب الكيان وبُناه بقسوة، وتُفاقم الهجرة منه، وقد تقترن بأحداث أمنية كبرى.
من أجل هذا كله، هناك ضرورة لجبهة وطنية واسعة من المسيحيين والمسلمين من وراء البطريرك، من أجل لفت انتباه الفاتيكان والعالم كما التفتت فرنسا، ومن أجل تجنب تفاقم الجوع من جهة؛ والنزاع الداخلي من جهة أخرى. وفي المَثَل اللبناني: القِلّة تولّد النِقار (= النزاع)!