بقلم: رضوان السيد
ما عاد خطاب «استعادة الشرعية» غريباً على الحياة السياسية والقانونية والثقافية في لبنان. وقد اكتسب زخماً في الشهور الماضية عندما دعا البطريرك الماروني لذلك في عظة أحدية له في الخامس من يونيو (حزيران) الماضي. في تلك العظة خاطب البطريرك الراعي رئيس الجمهورية ودعاه لإطلاق سراح الشرعية، وضمّ لذلك مطلبين: تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وحياد لبنان وتحييده عن النزاعات والمحاور. ومنذ ذلك الحين انهمك البطريرك في تطوير خطابه فيما يتعلق بالحياد، وأصدر مذكرة توضيحية في ذلك الشأن. وجاءت أحداث شهر أغسطس (آب) الهائلة لتدعم مطلب البطريرك لأنّ كلّ ما حصل في ذلك الشهر يؤكد غياب الشرعية، ومن انفجار مرفأ بيروت وخراب ثلث المدينة في 4 أغسطس، وإلى حكم المحكمة الدولية في 18 أغسطس في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإلى مجيء الرئيس الفرنسي ماكرون مرتين إلى لبنان للتضامن في أعقاب حادث المرفأ وخراب المدينة، ولاقتراح نهج سياسي جديد، ما لبث أن انصبّ على تشكيل حكومة إنقاذ مهمتها إجراء سبعة إصلاحات. وهي الإصلاحات التي رجا الرئيس الفرنسي أن تُقنع الدوليين بالتعاون مع لبنان من أجل إيقاف الانهيار الاقتصادي، وإعادة إعمار المرفأ وبيروت.
حتى الآن ما شكّلت وقائع الانهيار الاقتصادي وانفجار المرفأ، وحكم محكمة الحريري، وعياً جديداً لدى الطبقة السياسية اللبنانية، بضرورة الإصلاح ومكافحة الفساد واعتماد الخطة الإصلاحية المطلوبة. ففي مقابل دعوة البطريرك لاستعادة الشرعية الدستورية وحكم القانون، وإخراج لبنان من المحاور والنزاعات، انصرفت الأطراف الرئيسية في السلطة للمطالبة بتجاوز الدستور أو تعديله. كما رفضت الأطراف ذاتها استقدام تحقيق دولي في انفجار المرفأ، كما استعصت حتى الآن على الإصلاحات المطلوبة من الفرنسيين ومن الأميركيين ومن الألمان ومن الإيطاليين ومن البريطانيين، وقبل ذلك وبعده من كل الخبراء اللبنانيين. أما مطلب حكومة الإنقاذ فلا أحد يدري هل ستجري تلبيته بعد تكليف السفير مصطفى أديب بتشكيل الحكومة العتيدة. والشائع أنّ لدى رئيس الجمهورية والفريق الشيعي تحفظات على الصيغة الحكومية التي طلبها الرئيس الفرنسي، ويحاول الرئيس المكلَّف إنفاذها.
وإذا كانت أحداث شهر أغسطس بالذات بكل مفاعيلها، قد أكدت أَمري الإصلاح والسيادة (الحياد)؛ فإنّ أحداث الأسبوع الأول من شهر سبتمبر (أيلول) يمضي في المنحى ذاته. والأحداث هي: أولاً إعلان حاكم المصرف المركزي أنه لا يستطيع دعم المستوردات الأساسية لأكثر من ثلاثة أشهر، مما يعني إمكان الارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة والدواء والأغذية؛ في حين لا يوجد نهوضٌ اقتصادي أو أمل بالنهوض، كما لا يوجد أملٌ في تلقّي مساعداتٍ خارجية عربية أو دولية مع غياب الإصلاح والخطة.
أما الحَدَث الثاني فهو الزيارة الانتصارية لإسماعيل هنية زعيم حركة «حماس» إلى لبنان والذي جمع عن بُعد «الفصائل» الميليشياوية المعروفة والمتجولة بين سوريا وطهران، وسارع إلى الاجتماع بزعيم «حزب الله»، ثم أجرى عراضة عسكرية في مخيم عين الحلوة الشهير، وهدَّد إسرائيل - مقلِّداً زعيم الحزب - بأن صواريخ «حماس» ستصل إلى تل أبيب وما وراء تل أبيب! لا أحد يدري كيف دخل هنية إلى لبنان، ولماذا اختيرت بيروت المنكوبة لتجتمع فيها الميليشيات الفلسطينية من جديد. وما أوضح مسؤول رسمي ما الحكمة من استحضار الملف الفلسطيني الهائل إلى لبنان من جديد بعد أن كانت البلاد مسرحاً للحروب الإسرائيلية منذ عام 1968 وإلى أسابيع قليلة. وألا يكفي لبنان الحضور الصاعق لميليشيا «حزب الله» المتحكمة بالبلاد والعباد، بحجة مقاومة إسرائيل؟! وبالطبع لا يملك الإجابة عن كل هذه الأسئلة غير زعيم الحزب الذي تشرّف هنية بلقائه، أما مصلحة لبنان وأما سيادته فآخِر من يسأل عنها هذا العهد وزعيمه! أَوَلم يقل البطريرك وهو محقٌّ بضرورة تحرير الشرعية؟ وهو خاطب بذلك رئيس الجمهورية كما يفعل أي مواطن. لكنّ البطريرك وكل اللبنانيين يعلمون أنّ الشرعية مرتَهَنة ليس لدى الرئيس الحليف للحزب بل لدى الحزب وزعيمه وإيران، أَوَلم يقل الإيرانيون من سنوات إنّ طهران الثورية استولت على أربع عواصم عربية منها بيروت؟ وهكذا فزعيم ميليشيا «حماس» إنما زار زعيم الحزب الإيراني، ولم يزر لبنان المنتهَك السيادة والشرعية!
والحدث الثالث أغرب وأعجب. ففي الثامن من شهر سبتمبر، أي قبل يومين، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ على وزيرين سابقين في الحكومة اللبنانية هما: يوسف فنيانوس من محازبي سليمان فرنجية، وعلي حسن خليل من محازبي نبيه بري رئيس مجلس النواب. والداعي لذلك كما قالت الوزارة الأميركية إنهما «قدما مساعدات مالية وعينية لـ(حزب الله) وتآمرا معه على حساب الشعب اللبناني».
بمقتضى القرار الدولي رقم 1559 (2004) كان ينبغي منذ ذلك الحين نزع سلاح الحزب. فقد نصّ القرار على أمرين: خروج القوات السورية من لبنان، وتجريد كل الميليشيات من السلاح، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم لا سلاح خارج الجيش والأجهزة الأمنية إلاّ لدى الحزب! والطريف أنّ العقوبات على فنيانوس كان من أسبابها التدخل لإعاقة التحقيق الدولي في مقتل الرئيس رفيق الحريري، وقد ثبت بحكم المحكمة الدولية في 18 أغسطس الماضي أنّ كادراً في الحزب اسمه سليم عياش هو الذي نفّذ عملية الاغتيال. لقد طالبتُ في عدة مقالاتٍ على مشارف حكم المحكمة بإيقاف الشراكة مع الحزب في الحكومات والحياة السياسية، ما لم يسلِّم المُدان من المحكمة للعدالة الدولية. والحزب ما قتل الحريري فقط، بل قتل مئات من اللبنانيين والآلاف المؤلفة من السوريين. إنما للأسف إنّ السياسيين من المسلمين وغيرهم، ما قالوا كلمة لا عن الحزب ولا عن سلاحه؛ بحيث ظلت المبادرة «لإنقاذ لبنان» من السلاح غير الشرعي، بيد الأميركيين. كما بدا أنه لا ساخط على السلاح المتفلت غير البطريرك الماروني!
هل يبقى الأمل باستعادة الشرعية اللبنانية والاستقلال اللبناني؟ حتى الآن يبدو أنّ الأميركيين والأوروبيين هم المهتمون باستقلال لبنان وسلامه وسيادته. أما الطبقة السياسية فتبدو صامتة أو خائفة من العقوبات. وهذا الخوف يعني أنّ الجميع مشاركون في الجريمة. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.