بقلم : رضوان السيد
مساء يوم الأحد (18/ 10/ 2020)، كنت أستمع إلى إحدى نشرات الأخبار في فضائية عريقة، فمرت على التوالي ثلاثة أنباء عن العنف باسم الإسلام، أو العنف الإسلامي، أو العنف الذي قام به مسلمون (!). الخبر الأول عن خطف اثني عشر شخصاً بناحية بلد في محافظة صلاح الدين بالعراق، وقتل ثمانية منهم، أما الأربعة الآخرون فما يزالون مجهولي المكان والمصير. والخبر الثاني عن تقدم التحقيقات بشأن الخلية «الداعشية» بشمال لبنان التي قتلت ثلاثة مسيحيين بإحدى قرى الكورة، ثم ستة عسكريين كانوا يلاحقونها، وقُتل من أعضائها عشرة، وقُبض على عشرة. أما تقدم التحقيقات بشأنها، فيرجع إلى القبض على شبان جدد كانت لهم علائق بها بطرابلس والضنية وعكار، لبنانيين وفلسطينيين وسوريين... وقد بلغ عددهم المئات! والخبر الثالث من فرنسا عن نتائج التحقيقات بشأن الشيشاني الذي قطع رأس المدرِّس الفرنسي لأنه عرض الرسوم الكاريكاتورية الشهيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمام تلامذة المدرسة. أما المجرم فقد قتله رجال البوليس، وأما التحقيقات فقد أدّت للاستماع إلى مئات، في حين أُوقف ثمانون حتى الآن من الأقارب والأصدقاء، وأخيراً من أولئك الذين أصدروا «الفتوى» بقتل معلّم المدرسة!
عندما نتأمل في تفاصيل الأحداث الثلاثة، قد لا نجد علاقة بينها، باستثناء أنّ الذين قاموا بها مسلمون. في الحادثة الأولى يظهر العامل الشيعي - السني المفزع في العقود الأخيرة. أما المشترك الآخر الأبرز بين الأحداث، فهو أنها جميعاً مدبَّرة، أو هكذا يقول الأمنيون، وبذلك ما عاد يمكن الحديث عن «الذئاب المنفردة» المتخلِّفة عن أهوال «القاعدة» و«داعش». وبالوسع بالطبع، ما دامت الأمور «مدبَّرة» أو جرى التخطيط لها، الحديث والتركيز على الاستغلال والابتزاز والاستثارة، بل والمؤامرة! فلماذا تُقْدم عناصر شيعية مسلَّحة في ناحية بَلَد ومحافظة صلاح الدين التي يحكمها عملياً «الحشد الشعبي» على خطف سنة وقتلهم، مع أنه كان بوسعها - كما في حالاتٍ كثيرةٍ - أن تتهمهم بالداعشية وتقبض عليهم، وهيهات أن يُعثر عليهم في أي مكان! وإذا قرنّا هذه المذبحة بما حدث في اليوم نفسه من إحراق لمقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد، فيمكن الذهاب إلى أنّ المقصود في الحالتين إظهار ضعف حكومة الكاظمي، وأن الفريق الموالي لإيران بالعراق مستعد لمواجهة الأطراف الثلاثة معاً: حكومة الكاظمي، والأكراد، والسنة! وفي حالة المدرِّس الفرنسي المذبوح بداعي عرض الرسوم المؤذية، بعد أيام على خطاب الرئيس الفرنسي ضد الإسلام «الانفصالي المأزوم»، تظهر دلالتان متعارضتان: هناك من جهة البرهان على ما قاله الرئيس عن انفصالية الإسلام الفرنسي. وهناك من جهة ثانية الدلالة على «وحشية» المسلمين وتخلفهم وعدم قدرتهم على الاندماج في مجتمع ديمقراطي علماني معاصر ليس مستعداً لممارسة العنف، وإن أُهينت له رموز دينية! أما الحادث الثالث في شمال لبنان فيراد له أن يُظهر وجود تنظيمات «جهادية» مسلحة وخلايا نائمة في المجتمع السني اللبناني، خاصة في الشمال، بعد ظنّ الخمود قبل أربع سنوات أو خمس، حيث بين العامين 2012 و2017 قُتل المئات، وسُجن الآلاف، وخرج زعيم الحزب المسلَّح ورئيس الجمهورية بتكليف جديد للحزب، إلى جانب تحرير مزارع شبعا وفلسطين معاً، بمكافحة الإرهاب!
هناك إذن في المشاهد الدموية الثلاثة تحقُّق التدبير المسبق، والانتباه إلى وجود أهداف سياسية واستراتيجية وثقافية أو دينو-ثقافية، كما يقال. إنما في كل هذه الحوادث ومشابهاتها يظلُّ بارزاً - وبارزاً جداً - الاستسهال الشديد للعنف في أوساط شبان السنة والشيعة، وسهولة الدفع باتجاهه مهما كانت النتائج مهولة مدمِّرة للمجتمعات وتماسكها وسلامها، قبل أن تكون مؤثّرة في إضعاف إدارات الدول وأجهزتها الأمنية والقضائية. وإنه ليبلغ من ضعف مجتمعاتنا وإرهاقها طوال عقدين، سواء أكانت مجتمعات الكثرة الإسلامية الأصلية أو مجتمعات الهجرة والاغتراب، أنها في كثرتها الساحقة ترفض العنف وتخشى تداعياته أشدَّ الخشية، وهي وإن تكن مريدة للاندماج والتماسك، أو عاجزة عنهما لأسبابٍ مختلفة، فإنها تنظر إلى التصرفات العنيفة، من جانب أفرادٍ منها أو من خارجها، بصفتها مؤامرات مدبَّرة لإحداث مزيد من الاضطراب والإعياء واليأس.
طوال عدة عقود، ظلَّ مثقفونا الكبار مصرّين على أنّ الموروث الديني بمختلف طبقاته ورموزه هو علة العجز في الدخول إلى الحداثة، وهذا العجز هو الذي يتسبب في التذمر والاستنزاف والعنف، بينما ظلَّ أهل التقليد المتجدّد يعدون الحداثة والعولمة وظواهرهما هما العلة فيما حدث ويحدث للمجتمعات والدول. ثم شغل العنف الهائل باسم الدين الدول والمؤسسات الدينية، فأقبلوا على الاستعداد والعمل باتجاه ثلاثة أمور: مكافحة التطرف والإرهاب، واستعادة السكينة في الدين، والتواصل والتشارك مع الديانات والثقافات في العالم من أجل رؤية أُخرى للإسلام، ورؤى أُخرى من جانب المسلمين تجاه عالم العصر وعصر العالم؛ من رسالة عمّان (2004) إلى مؤسسة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات (2007)، إلى بيانات وإعلانات الأزهر ومجلس الحكماء للمواطنة والعيش معاً، ومنتدى تعزيز السلم وإعلان مراكش للأقليات، وميثاق حلف الفضول الجديد، ومرة أخرى وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا وشيخ الأزهر بأبوظبي - وكل هذه الإسهامات والشراكات من الأزهر ومجلس حكمائه ومنتدى تعزيز السلم دعمتها - وما تزال - إمارة أبوظبي ودولة الإمارات العربية. وهكذا للمرة الأولى منذ مطلع القرن العشرين الذي انقضى وما انقضت آثاره وتداعياته، تقود المؤسسات الدينية عمليات الإصلاح الديني. وتمتد هذه العمليات في سائر المؤسسات الدينية والإسلامية العامة. فرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة أصدرت عام 2018 ميثاق مكة المكرمة عن المواطنة العالمية الشاملة. فالإصلاح أو تجديد الخطاب الديني يتم بالدواخل، وبمد اليدين إلى الخارج العالمي وعالم المغتربات. وقد تكرر في البيانات والإعلانات الاعتراف بالواقع، وهو أن نحو ثلث المسلمين عدداً يعيشون في مجتمعاتٍ غير إسلامية.
هل أثرت هذه الجهود المركَّزة؟ وإلى أي حد؟ لقد ذكرتُ في عدة استطلاعات أكاديمية وصحافية أنّ عمليات تصحيح المفاهيم وتحريرها - وهي التي كان الراحل محمد أركون يسميها: مجالات اللامفكَّر فيه - لدى المؤسسات الدينية الإسلامية تبلغ آفاق السردية الجديدة في الإسلام، الباحثة عن سلامة الدين وسكينته، من طريق السلام مع العالم.
المسألة أنه ما تغير المسلمون وحدهم، مستقرين أو مهاجرين، بل حدث التغيير، وبعضه عنيف، أيضاً تجاه الآخر في سائر الأديان والثقافات، باستثناء الكاثوليكية.
إنّ التأثير الجديد للمبادرات والمشتركات يترك آثاره من دون شك، لكنّ الهويات الإسلامية وغيرها، مثل البوذية والهندوسية واليهودية، فضلاً عن القوميات والإثنيات، تتفاصل وتتباعد وتتوتر. والمسؤولون السياسيون في الدول الكبرى ليسوا جميعاً، ولا في معظمهم، مثل البابا فرانسِس. ويبقى أنّ العنف باسم الدين في أوساط شبان المسلمين ما يزال حاضراً، ولا تقلّل من خطورته شبهات الابتزاز والاستغلال والاستهداف. وهكذا ما يزال أمامنا، مثقفين ومسؤولين دينيين وسياسيين، في ديارنا ومجتمعات بلدان الاغتراب، نضالٌ طويلٌ لفرض الانضباط، وكسر العنف، واستعادة السكينة في المجتمعات المتعبة التي تخشى من الحاضر على المصائر «والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».