بقلم - رضوان السيد
منذ شهور يستذكر العرب ويستذكر الصهاينة أيضاً مرور مائة عام على «سايكس – بيكو» ووعد بلفور. وفي يومي 17و18 من هذا الشهر، أي قبل أيام، اجتمع ثلاثمائة مدعو من السياسيين والعلماء والمثقفين العرب في رحاب الأزهر بمصر لنُصرة القدس، وللتفكير في كيفية مواجهة قرار الرئيس الأميركي باعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني. وفي 22-1 وبعد اجتماعٍ بين الملك الأردني عبد الله الثاني، ونائب الرئيس الأميركي، أعلن الأخير أنهما اتفقا على «الاختلاف» بشأن قرار الرئيس ترمب، وعاد بنس للتذكير بأنّ الولايات المتحدة لا تزال مع حلّ الدولتين!
ذكرتُ هذه الأحداث والوقائع جميعاً، ليس لإثبات أهمية القدس وفلسطين في الوعي العربي وحسْب؛ بل ولأنّ العودة لتذكر اتفاقية سايكس - بيكو بين البريطانيين والفرنسيين (قوى الاستعمار الرئيسية في نهاية الحرب الأُولى)، تجدِّدُ لدينا الوعي بأن وعد بلفور كان التزاماً بين بريطانيا والمنظمة الصهيونية العالمية؛ بينما كانت اتفاقية سايكس - بيكو تقسيماً عملياً لمنطقة المشرق العربي (ناقص مصر لأنّ البريطانيين كانوا قد احتلوها عام 1882، بينما كان المقصود من الاتفاقية تقسيم المناطق العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة العثمانية إلى حين هزيمتها في الحرب عام 1918). فاتفاقية سايكس - بيكو هي التي حوَّل تطبيقها المشرق العربي إلى «الشرق الأوسط». وقد كان المقصود من وراء الاتفاقية، وبوعي، ليس التوافق على مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا وحسْب؛ بل وضرب التطلع الجديد لدى النُخَب إلى دولة قومية عربية، شأن سائر الأُمم والشعوب المستعمرة بعد سقوط الإمبراطوريات الكلاسيكية الثلاث: النمساوية - الهنغارية، والروسية، والعثمانية، فقد كان المطلوب في مؤتمر باريس عام 1920 تحويل الطوائف والإثنيات إلى أُمم - دول كثيرة بحيث لا تعود هناك أكثريات تظل معارضة للاستعمار، وتسعى للتوحد في دولة. كان في المتناوَل: الموارنة واليهود والأرمن والأكراد والعلويون، والمحليات والجهويات العشائرية. ولكي يمكن الاحتيال على مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون، ومن ضمنها حق الشعوب في تقرير مصيرها، أُرسلت بعثات لتسأل نُخَب تلك الشعوب، وليس عن الاستقلال، بل عن الدولة التي يريدون أن تكونَ منتدَبة عليهم بحجة تهيئتهم للاستفتاء لأنهم في نظر المستعمرين ما كانوا مهيئين بعد لممارسة حق تقرير المصير وبناء الدول (!). وبالطبع، جاءت النتائج كما أرادوا، باستثناء سوريا التي كانت نخبها قد أقامت «الدولة العربية» بقيادة فيصل الأول، فأسقطها الجيش الفرنسي القادم من لبنان، وصار البلدان من حصة فرنسا في هذه القسمة الضيزى. وظلت فرنسا «أمينة» للمشروع التقسيمي لضرب الأكثريات، فضمت إلى جبل لبنان المسيحي الصغير أربعة أقضية من سوريا، وحاولت إنشاء أربع دويلات في سوريا: اثنتان منفصلتان للسنة في دمشق وحلب، وثالثة للعلويين، ورابعة للدروز. واستمرت تلك الدويلات خمس سنوات، وما سقطت إلاّ لأنّ العلويين والدروز ما قبلت نخبهم الانفصال. أما «دولة لبنان الكبير» فقد أُعلن استقلالها، وفي دستورها لعام 1926 جرى الحديث عن «الأمة اللبنانية»، باعتبار «نظرية» الدولة القومية، التي تقول إنّ كلَّ أمة تستحق دولة! وانصرفت بريطانيا لاستقدام اليهود إلى فلسطين، ليكون هناك شعبان على الأقل، باعتبار أنّ عددهم عام 1920 كان أقلّ من مائة ألف، ومن دون تركُّزٍ في منطقة، ولولا هتلر والنازية، لما أمكن استقدام ستمائة ألف آخرين خلال ثلاثينات القرن وأربعيناته! ولأنه بعد عشر سنوات من تصفية الحسابات وضبط الترتيبات، ما بقي للعرب في المنطقة غير سوريا، فما أُخذت منها الأقضية الأربعة فقط؛ بل الإسكندرون والموصل وقسم من منطقة الجزيرة والتي يُراد الآن إعطاء الجزء الباقي منها في الدولة السورية للأكراد، باعتبار سوريا أيضاً مملوءة بالأقليات والشعوب ذات القوميات المختلفة عن العرب. وهكذا، لا يبقى من المؤمنين بعروبة سوريا ووحدتها غير أهل الأكثرية القومية، وقد قُتل منهم في السنوات الماضية قرابة المليون، وتهجّر ثمانية ملايين، فصاروا أقلية كبرى ضمن الأقليات المتكاثرة. وقد قال الرئيس السوري قبل أشهر في حديثٍ مباشرٍ على إحدى القنوات إنه بعد سنوات من الحرب على سوريا، صار النسيج الاجتماعي أكثر انسجاماً، وهو يقصد أنّ السنة (عددهم بالبلاد في الأصل عشرون مليوناً) تناقصت أعدادهم كثيراً، فقلت قدرتهم على إزعاج حكم الأقلية أو الأقليات بعد المذابح والتهجير الذي جرى عليهم وما يزال يجري! ولنعد إلى الأصل. المشروع العربي هو مشروع الدولة التي لا تُهدِّد (الأقليات)، وتصون ولا تُبدّد (لا تتنازل لأحد عن وحدتها وانتمائها وسيادتها). وهو بطبيعته ولأنه مشروع الأمة أو أكثريتها لا يقبل التبعية، ولا يتنازل عن الأرض، ولا يخضع بالقوة أو بالسياسة لسيطرة أحد. ولذلك؛ ومنذ «سايكس – بيكو»، كان هناك حرصٌ منقطع النظير أن لا تقوم له قائمة. وقد كان هناك تقدم للمشروع في لحظتين تاريخيتين: لحظة تأسيس الجامعة العربية (1945) بالتوافق بين السعودية ومصر - ولحظة انتصار الإرادة العربية (1956) بفشل الغزو البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي لمصر لإسقاط نظام الحكم فيها. وما كانت نكسة أو هزيمة عام 1967 لتضرب المشروع (لأنّ التلاحم السعودي - المصري عاد)، لولا اغترار السلطات في سوريا والعراق، وهما البلدان اللذان ابتُليا بحكم حزب البعث وذهنيته، وتصديهما للزعامة الأوحدية، وتنافُسهما (من ضمن «سايكس –بيكو»!) على نشر سياسات الانقسام والانتقام، ثم تحولهما إلى نظامين طائفيين أقلويين، تسببا في تقسيم المجتمعين السوري والعراقي إلى إثنياتٍ وطوائف وأقليات!
إنّ هذا التصدع العملي للمشروع العربي، مشروع الأكثرية، تبعه أو تلازم معه تصدعٌ رمزي هائل. فلنتأمل معاً ما يجري الآن في العراق وسوريا ولبنان واليمن. في العراق يفقد عشرة ملايين من العرب السنة معناهم السياسي؛ لأنّ نصفهم مهجَّر، والنصف الآخر الذي عاد إلى دياره سيدفعونه للتصويت لمن سمحوا له بالعودة من الميليشيات المتأيرنة. والعشرون مليون سوري، ترك أكثر من ثلثهم ديارهم، والباقون خمسة أقسام: قسم خاضع تماماً لنظام بشار، وهؤلاء عليهم أن يتظاهروا يومياً بعبادته. وقسم لا يزال يتعرض للحصار والتجويع والقصف من حول دمشق وامتداداً إلى درعا. وقسم واقع تحت رحمة الإيرانيين والروس وبعض مسلحيهم يقاتلون مع الطرفين ضد بني قومهم بحجة مكافحة الإرهاب! وقسم يقاتل مع الأكراد في الشمال والشرق لإقرار مشروعهم الانفصالي أو الفيدرالي. وقسم يقاتل مع الأتراك ضد الأكراد لدفع الخطر الذي يشكله هؤلاء (بزعم إردوغان) على الأمن القومي التركي!
أما في لبنان؛ فإنّ رئيسي الجمهورية والحكومة يخترعان وظائف وفضائل جديدة لسلاح «حزب الله»، مثل الحماية من إسرائيل، والدفاع ضد الإرهاب، وأنه لا يستعمل سلاحه بالداخل. ثم يزعمان أنه قوة إقليمية ولا حلَّ مع سلاحه إلا «بعد انتهاء أزمة الشرق الأوسط»! وآخِرُ أخبار اليمن أنّ الحوثيين يحاولون تهجير سكان صنعاء المختلفين عنهم طائفياً أو سياسياً، بعد قتلهم علي عبد الله صالح؛ لاعتقادهم أنهم ما عادوا في حاجة إليه لستر استيلائهم على البلاد جبلاً وساحلاً! المشروع العربي هو مشروع الجماعة والأكثرية. وهو المشروع الذي نتذكره اليوم بمناسبة مرور مائة عام على «سايكس – بيكو» ووعد بلفور؛ لأنه لا بقاء ولا انتماء من دونه. وما عاد المستعمرون في حاجة إلى التدخل المباشر ضد إحيائه أو استئنافه، وقد صار عندهم إسرائيل وإيران وتركيا، مع حضور الأميركان والروس للمساعدة عندما تدعو الحاجة. هذه هي التحديات الكبرى، وهي لا تُذكَرُ للتهويل أو التيئيس، بل لكي نبقى مع عروبتنا وانتمائنا، وإن صار القابض عليهما منا كالقابض على الجمر. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
نقلا عن الشرق الأوسط القاهرية