بقلم: رضوان السيد
ما أن مضى شهرٌ على اجتياح فيروس «كورونا» للعالم حتى شاعت العبارة التي صارت شهيرة؛ بعد «كورونا» لن يعود العالم كما كان! ويختلف القائلون في الفهم والتفسير للعبارة؛ لن يعود كما كان بسبب الفشل في مواجهة المشكلات، وذروتها فلا بد من إدارة جديدة، أو أنّ الوباء سيزيد من الشكوك والتوجسات بين الأطراف العالمية (أميركا والصين الآن مَثَلاً) فتنشب نزاعاتٌ أكبر، بدأت ولن تنتهي. وهكذا، هناك بعد التسليم بأنّ التغيير حاصل، أو أنه سيكون إلى الأفضل والأحسن، أو إلى الأسوأ.
الحدث الهائل إذن هو الذي يغير العالم، وسواء أكان هذا الحدث سياسياً حربياً أو وبائياً. وينبغي لكي يكون التغيير كبيراً أو ملحوظاً أن يكون الحدث شاملاً، مثل الحربين الأولى والثانية. فبعد الحرب الأولى قامت عصبة الأمم، وبعد الحرب الثانية قامت الأمم المتحدة (1945) وتلاها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). والطريف أنه لا يُذكَرُ في أسباب التغيير الحُمَّى الإسبانية التي اندلعت عام 1919 والتي يقال إنها قتلت 50 مليون إنسان، أي أنّ ضحاياها كانوا أكثر بكثير من ضحايا الحرب العالمية الأولى!
وبغضّ النظر عن مدى نجاح التغيير في صون نظام العالم الجديد، أمناً واقتصاداً وصحة وتغذية، فإنّ مغزى ما حصل بعد الحربين، أنّ الاتجاه كان في كل مرة إلى زيادة التعاون بين الدول الكبرى لمنع الحروب، ودعم السلام، والاهتمام بإدارة العالم باتجاه رعاية حقوق الإنسان، واستقلال الشعوب، والتنمية المستدامة. حتى مسائل الصحة والتغذية، وليس الاقتصاد فقط (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي) لقيت عناية كبرى (منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة)، وإن كان المقصود في الأصل رعاية مشكلات الفقراء الغذائية والصحية في دول آسيا وأفريقيا وأميركا الوسطى واللاتينية.
إنّ الواضح أنّ نظام العالم الحالي، حتى في جوانبه المبدئية والنظرية (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) هو من صناعة الغربين الأميركي والأوروبي. وفي حين كانت القرارات الأمنية والتنظيمية التي تقتضي إنفاقاً بيد الأميركيين يساعدهم تصويتاً وإسهاماً زملاؤهم في أوروبا والحلف الأطلسي؛ فإنّ المعسكر الروسي كان يملك حق النقض، الذي يمكن أن يشلَّ مجلس الأمن، فتترك النزاعاتُ لتنحلَّ على الأرض. لكنّ الأمور الأخرى، وهي كثيرة، كانت من صنع الغرب وإسهامه من دون حاجة إلى توافقٍ مع الروس. وقد مرَّ هذا النظام بـ4 مراحل؛ مرحلة الفيتو الروسي (في الحرب الباردة)، ومرحلة الدخول الصيني والمصير إلى نوعٍ من التوازن، ومرحلة الهيمنة الأميركية، وأخيراً المرحلة الحالية، التي يسميها كثيرون مرحلة عدم التأكد!
لقد واجه النظام العالمي دائماً اعتراضاتٍ من جانبين؛ جانب الاتحاد السوفياتي وحلفائه، (ومنهم الصين في السنوات الأخيرة) والدول المؤثرة حديثاً في نظام العالم واقتصاده (مثل الصين والهند والبرازيل وألمانيا واليابان والمملكة العربية السعودية وتركيا)؛ فقد أرادت هذه الجهات دونما اتفاقٍ تفصيلي فيما بينها الإفضاء إلى نظام متجدد الأقطاب، يكون أكثر توازُناً وعدالة، والجانب الآخر ما صار يُعرف بالمجتمع المدني العالمي المعنيّ بالقضايا النوعية العالمية، مثل الغذاء والأمراض وفساد البيئة والفقر المدقع والهجرة. وترى هذه الجهات، وبينها مفكرون اقتصاديون كبار، ودُعاة سلام، وأقطاب دينيون، وأقطاب شركاتٍ عالمية، أنّ استمرار هذه المشكلات وتفاقمها سيزيد من الحروب الصغيرة والوسطى، ويشكّل ضغوطاً على النظام العالمي، فضلاً على زيادة الأوبئة والزلازل وفساد البيئة واضطرابات البحار وزيادة التصحر.
بيد أنّ النظام العالمي الذي قام في الأساس على عواتق الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، يواجه اليوم صعوباتٍ جمة من الجانب الغربي أو الأميركي ذاته. فاستناداً إلى الشعبويات الجديدة في أميركا وأوروبا، والرئيس ترمب نتاج إحدى شعبويات الهوية هذه، يذهب قادة الشعبويات الجديدة، وعلى رأسهم ترمب، إلى أنّ العالم الغربي، وبخاصة الولايات المتحدة، ما عادوا يستطيعون تحمل الأعباء المادية التي يلقيها على عواتقهم النظام العالمي منذ 70 عاماً وأكثر. المعتدلون نسبياً في أوروبا يريدون من الصين والهند ودول أخرى كثيرة، وبخاصة الدول النفطية بالجزيرة، الإسهام أكثر وبحصة وازنة في وكالات الأمم المتحدة ومفوضياتها. أما الرئيس ترمب وقلة من القادة الأوروبيين الجدد فيريدون الانسحاب من نظام العالم كلّه إلى داخل بلدانهم. لقد أحدث الرئيس ترمب مشكلاتٍ قاسية مع الصين ومع البرازيل ومع كندا ومع المكسيك ومع أوروبا، وخرج من اتفاقية المناخ الباريسية، كما خرج من الاتفاقيات الدولية بشأن القضية الفلسطينية. وهو لا يتعاون اليوم مع أحدٍ للقيام بعملٍ جماعي، تسعى إليه المملكة العربية السعودية ودول أوروبية من أجل مكافحة وباء «كورونا»، ومساعدة الاقتصاد العالمي وتخفيف الأعباء الهائلة الواقعة على اقتصادات الدول الفقيرة.
إنّ الواقع أنّ الأميركيين كانوا يدفعون نحو 40 في المائة من موازنات كل جهات النظام العالمي. وهم يريدون تخفيضها إلى نحو 20 في المائة استناداً إلى قوة الاقتصاد، وعدد السكان. وبالطبع، وبالنظر لهذين المقياسين، يكون على الصينيين والهنود والأوروبيين أن يدفعوا أكثر بكثير. وقد تخف الوطأة قليلاً إن جاء رئيس ديمقراطي محلّ ترمب في الانتخابات المقبلة. لكنّ المشكلة أعمق وأكبر. فالنزعات التبشيرية والليبرالية والنزعات الإنسانوية تتراجع في الولايات المتحدة وفي أوروبا على حدٍ سواء. ولذلك سيفتقر النظام العالمي قريباً إلى أساسه النظري الإنساني.
منذ عقدين تصدر دراساتٌ كثيرة، عنوانها؛ ما بعد العصر الأميركي. بيد أنّ مستنداتها اقتصادية، بسبب التقدم الإنتاجي الكبير الذي حققته عشرات الاقتصادات العالمية، وأهمُّها الصين والهند واليابان. لكنّ هؤلاء يقولون إنهم يدفعون الكفاية لجهات النظام العالمي، ولن يدفعوا أكثر. والأوروبيون الذين يأتون في الدفع بعد أميركا مباشرة ليسوا مستعدين أيضاً، وخاصة أنهم يدفعون للأميركان في مقابل الحماية!
في الأحداث الحاسمة، ووباء «كورونا» حاسم في الوعي، تكثر دعوات التغيير، التي ينبغي أن تكون عالمية، لأن المشكلات عالمية. إنما من الذي يدفع التكلفة؟ والأمر الآخر؛ من الذي يحمل بواعث الرسالة؟
حتى اليوم، كان العالم تتقارب جهاته المسؤولة أخلاقياً ومادياً في الأزمات الكبرى، كما يحصل في حالة «كورونا»؛ فهل المزيد من التعاون والتضامن هو منطق المسار العالمي الحالي؟