توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كافكا.. وكوابيس اليقظة -3

  مصر اليوم -

كافكا وكوابيس اليقظة 3

بقلم - بهاء جاهين

 ذروة كوابيس كافكا قصته «المسخ» (1912). وكلمة مسخ هنا هى اسم فعل يصف عملية مسخ أو تحويل كائن بشرى إلى صرصار. تبدأ القصة برجل - اسمه جريجور سامسا ويعمل بائعاً متجولاً يسافر بين البلاد - يصحو من نومه متأخراً عن ميعاد عمله, ويحاول النهوض بسرعة ليجد نفسه عاجزاً تماما؛ فقد تحول من إنسان إلى حشرة مقلوبة على ظهرها, أرجلها العديدة تتحرك بلا انقطاع, دون جدوي. هذا الموقف المبدئى هو أيضاً ذروة, لا للجو الكابوسى فقط, بل للتجسيد الرمزى للعجز فى الأدب؛ العجز والتفاهة وضآلة الشأن, وربما الأدق أن نقول: «الإحساس» بالعجز والتفاهة وضآلة الشأن. لأن ذلك البائع الذى يستيقظ ليجد نفسه على هذه الحال, أمام نافذة تكشف له عن صبح ضبابى ممطر, هو ذروة مجسدة للتعبير عن اكتئاب الوجدان؛ حيث انعدام القدرة والرغبة معاً فى أى فعل, والشعور بالضآلة والانسحاق. ويكشف تطوّر أحداث القصة عن أبعاد أخرى للورطة, وأعراض كلاسيكية أخرى لحالة الاكتئاب الوجداني. فجريجور سامسا, الذى يعيش مع والديه وأخته, تعود قبل النوم أن يوصد باب غرفته من الداخل بالمفتاح. وحجرته لها عدة أبواب تفصلها عن صالة الطعام وحجرة الأخت, كلها مغلقة من الداخل. وهذا يعمق الورطة الكابوسية؛ لأن الأهل الذين ينادونه ليستيقظ ويخرج لعمله لا يستطيعون الدخول لمساعدته على النهوض, وحين يرد عليهم, بكلام يفهمه هو, لا يفهمونه ؛ لأن صوته هو الآخر تحوّر من حالة الإنسان المبين إلى حال الحشرة. وكل هذا ليس فقط تطورات متصاعدة للمأزق/الكابوس, بل هو أيضاً تجسيد بليغ لحال العزلة والعجز عن التواصل الإنسانيّ الذى يعانيه الوجدان المكتئب. ومن أهم الأعراض لهذه الحالة أيضاً, أن تستيقظ من نومك شاعراً بكل هذا, «على الريق».

ويتصاعد كابوس اليقظة: فيصل باشكاتب الشركة التى يعمل لحسابها سامسا متسائلاً عن سبب تغيبه عن العمل. وينضم صوت الباشكاتب لطائفة المنادين على سامسا عبر الأبواب محكمة الإغلاق. ولعجز سامسا عن إيصال صوته الإنسانى وكلامه المفصّل, يجيب عن طلب الباشكاتب منه أن يفتح الباب بكلمة واحدة من مقطع واحد, تصل إلى رئيسه رغم تغيّر آلة النطق عنده من حنجرة بشرية إلى صفارة صرصار- فيجيبه قائلاً: لا. وأمام هذا الرد الوقح, يهدده الباشكاتب بالفصل, فيلقى سامسا بثقل جسده منذعراً إلى الأرض ويزحف إلى الباب, فيستند إليه بأرجله الكثيرة, ويعالج المفتاح بفمه حتى ينفتح بعد عذاب طويل.. وهنا يصل الكابوس إلى ذروته: لقد تكشف للأهل ورئيس العمل أن سامسا تحول إلى حشرة مقززة عملاقة..

هنا ينتهى الفصل الأول من قصة كافكا الطويلة أو روايته القصيرة: «المسخ». والفصلان المتبقيان يتتبعان نتائج وتطورات هذا الموقف المبدئى الكابوسيّ, حتى تنتهى الحكاية بموت سامسا, وحصوله على الخلاص هو وعائلته. والعجيب أن هذه القصة أيضاً, كما رأينا فى روايته «أمريكا», تنتهى بنغمة متفائلة: فالربيع اقترب, والأخت جريتا تفتّح برعمها وصارت وردة متألقة, اكتمل بهاؤها بعد انزياح الكابوس.

إن قصة «المسخ» هى ذروة بأكثر من معنى وعلى أكثر من مستوي. فقد بلغ فيها التكثيف قمته لانسحاق الفرد أمام المؤسسة, وشعوره بالغربة والعزلة والعجز. والمؤسسة هنا ليست بضخامة الهيئة القضائية فى رواية كافكا «المحاكمة» أو الهيئة البيروقراطية العملاقة فى «القلعة» أو الفندق الغربى فى «أمريكا», فهى مجرد شركة تجارية صغيرة, إلا أن سلطتها على جريجور قهّارة. وينضم الأب أو السلطة الأبوية فى «المسخ» إلى مؤسسات القهر المتعددة فى أعمال كافكا. ورغم كل هذه القتامة, فإن كتابات كافكا ساحرة وممتعة, لأنه يعرف كيف يكتب بشكل مختلف, وكيف يصل إلى عطر الشعر من دروب خفية, وبلغة لا تدعى الشاعرية, بل تغوص فى متاهات القانون وأوراق الموظفين.. أو حتى علم الحشرات!


نقلا عن الاهرام القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كافكا وكوابيس اليقظة 3 كافكا وكوابيس اليقظة 3



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon