توقيت القاهرة المحلي 11:15:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كافكا.. وكوابيس اليقظة -3

  مصر اليوم -

كافكا وكوابيس اليقظة 3

بقلم - بهاء جاهين

 ذروة كوابيس كافكا قصته «المسخ» (1912). وكلمة مسخ هنا هى اسم فعل يصف عملية مسخ أو تحويل كائن بشرى إلى صرصار. تبدأ القصة برجل - اسمه جريجور سامسا ويعمل بائعاً متجولاً يسافر بين البلاد - يصحو من نومه متأخراً عن ميعاد عمله, ويحاول النهوض بسرعة ليجد نفسه عاجزاً تماما؛ فقد تحول من إنسان إلى حشرة مقلوبة على ظهرها, أرجلها العديدة تتحرك بلا انقطاع, دون جدوي. هذا الموقف المبدئى هو أيضاً ذروة, لا للجو الكابوسى فقط, بل للتجسيد الرمزى للعجز فى الأدب؛ العجز والتفاهة وضآلة الشأن, وربما الأدق أن نقول: «الإحساس» بالعجز والتفاهة وضآلة الشأن. لأن ذلك البائع الذى يستيقظ ليجد نفسه على هذه الحال, أمام نافذة تكشف له عن صبح ضبابى ممطر, هو ذروة مجسدة للتعبير عن اكتئاب الوجدان؛ حيث انعدام القدرة والرغبة معاً فى أى فعل, والشعور بالضآلة والانسحاق. ويكشف تطوّر أحداث القصة عن أبعاد أخرى للورطة, وأعراض كلاسيكية أخرى لحالة الاكتئاب الوجداني. فجريجور سامسا, الذى يعيش مع والديه وأخته, تعود قبل النوم أن يوصد باب غرفته من الداخل بالمفتاح. وحجرته لها عدة أبواب تفصلها عن صالة الطعام وحجرة الأخت, كلها مغلقة من الداخل. وهذا يعمق الورطة الكابوسية؛ لأن الأهل الذين ينادونه ليستيقظ ويخرج لعمله لا يستطيعون الدخول لمساعدته على النهوض, وحين يرد عليهم, بكلام يفهمه هو, لا يفهمونه ؛ لأن صوته هو الآخر تحوّر من حالة الإنسان المبين إلى حال الحشرة. وكل هذا ليس فقط تطورات متصاعدة للمأزق/الكابوس, بل هو أيضاً تجسيد بليغ لحال العزلة والعجز عن التواصل الإنسانيّ الذى يعانيه الوجدان المكتئب. ومن أهم الأعراض لهذه الحالة أيضاً, أن تستيقظ من نومك شاعراً بكل هذا, «على الريق».

ويتصاعد كابوس اليقظة: فيصل باشكاتب الشركة التى يعمل لحسابها سامسا متسائلاً عن سبب تغيبه عن العمل. وينضم صوت الباشكاتب لطائفة المنادين على سامسا عبر الأبواب محكمة الإغلاق. ولعجز سامسا عن إيصال صوته الإنسانى وكلامه المفصّل, يجيب عن طلب الباشكاتب منه أن يفتح الباب بكلمة واحدة من مقطع واحد, تصل إلى رئيسه رغم تغيّر آلة النطق عنده من حنجرة بشرية إلى صفارة صرصار- فيجيبه قائلاً: لا. وأمام هذا الرد الوقح, يهدده الباشكاتب بالفصل, فيلقى سامسا بثقل جسده منذعراً إلى الأرض ويزحف إلى الباب, فيستند إليه بأرجله الكثيرة, ويعالج المفتاح بفمه حتى ينفتح بعد عذاب طويل.. وهنا يصل الكابوس إلى ذروته: لقد تكشف للأهل ورئيس العمل أن سامسا تحول إلى حشرة مقززة عملاقة..

هنا ينتهى الفصل الأول من قصة كافكا الطويلة أو روايته القصيرة: «المسخ». والفصلان المتبقيان يتتبعان نتائج وتطورات هذا الموقف المبدئى الكابوسيّ, حتى تنتهى الحكاية بموت سامسا, وحصوله على الخلاص هو وعائلته. والعجيب أن هذه القصة أيضاً, كما رأينا فى روايته «أمريكا», تنتهى بنغمة متفائلة: فالربيع اقترب, والأخت جريتا تفتّح برعمها وصارت وردة متألقة, اكتمل بهاؤها بعد انزياح الكابوس.

إن قصة «المسخ» هى ذروة بأكثر من معنى وعلى أكثر من مستوي. فقد بلغ فيها التكثيف قمته لانسحاق الفرد أمام المؤسسة, وشعوره بالغربة والعزلة والعجز. والمؤسسة هنا ليست بضخامة الهيئة القضائية فى رواية كافكا «المحاكمة» أو الهيئة البيروقراطية العملاقة فى «القلعة» أو الفندق الغربى فى «أمريكا», فهى مجرد شركة تجارية صغيرة, إلا أن سلطتها على جريجور قهّارة. وينضم الأب أو السلطة الأبوية فى «المسخ» إلى مؤسسات القهر المتعددة فى أعمال كافكا. ورغم كل هذه القتامة, فإن كتابات كافكا ساحرة وممتعة, لأنه يعرف كيف يكتب بشكل مختلف, وكيف يصل إلى عطر الشعر من دروب خفية, وبلغة لا تدعى الشاعرية, بل تغوص فى متاهات القانون وأوراق الموظفين.. أو حتى علم الحشرات!


نقلا عن الاهرام القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كافكا وكوابيس اليقظة 3 كافكا وكوابيس اليقظة 3



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:42 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة
  مصر اليوم - أفكار هدايا لتقديمها لعشاق الموضة

GMT 10:08 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد
  مصر اليوم - وجهات سياحية مناسبة للعائلات في بداية العام الجديد

GMT 09:50 2025 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل
  مصر اليوم - نصائح بسيطة لإختيار إضاءة غرف المنزل

GMT 00:01 2025 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

"لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا"
  مصر اليوم - لطفي لبيب يودع الساحة الفنية ويعلن اعتزاله نهائيًا

GMT 14:55 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 07:29 2020 الأربعاء ,17 حزيران / يونيو

ارمينيا بيليفيلد يصعد إلى الدوري الألماني

GMT 13:03 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

"فولكس فاغن" تستعرض تفاصيل سيارتها الجديدة "بولو 6 "

GMT 18:07 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الإيطالي يتأهب لاستغلال الفرصة الأخيرة

GMT 07:24 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

دراسة توضح علاقة القهوة بأمراض القلب

GMT 22:13 2024 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

بسبب خلل كيا تستدعي أكثر من 462 ألف سيارة

GMT 00:02 2023 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات فولكس فاغن تتجاوز نصف مليون سيارة في 2022

GMT 08:36 2021 الخميس ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أيتن عامر تحذر من المسلسل الكوري «squid games»

GMT 20:44 2021 الأربعاء ,15 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تتعرض للخيانة الزوجية من صديقتها المقربة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon