فى أعمال كافكا, يواجه كارل فى رواية «أمريكا» , كما واجه (ك) فى روايتى «المحاكمة» و»القلعة», نفس العالم كابوسى الملامح. والواقع أن فى «أمريكا» عدة كوابيس يقظة ؛ الأول يحتويه الفصل الثالث, والثانى فى الفصل السادس, الذى يتطور إلى كابوس ثالث فى الفصل الذى يليه. وإضافة إلى هذه الكوابيس الرئيسية, يشيع فى الرواية كلها جو الحلم الذى يشبه الحقيقة أو العكس.
ولكن قبل التطرق إلى تلك المواقف, ما الحكاية الأم؟ «أمريكا» تحكى عن مراهق ألمانى فى السادسة عشرة يرسله أبواه إلى خاله چيكوب رجل الأعمال المزدهر فى الولايات المتحدة, على سبيل الهجرة النهائية, هرباً من إثم أو عقاباً عليه؛ لأن المراهق كارل أغوته الخادمة فأنجب منها «ابن سفاح». هذا الموقف الاستثنائى يلد مجموعة كوابيس: فبعد أن أحسن الخال چيكوب وفادة ابن أخته, يدعوه بولاندر صديق الخال لقضاء عطلة نهاية الأسبوع فى منزله الريفى بالقرب من نيويورك, ويصر كارل على قبول الدعوة, رغم عدم تحمس الخال چيكوب. وهناك فى المنزل الريفى تستقبله كلارا ابنة بولاندر, وبعد العشاء تريه كارلا الحجرة التى سيبيت فيها.
وهنا يبدأ السرد الواقعى يتحول إلى كابوس: فالممر الذى يسيران فيه مظلم, وحجرة كارل أشد إظلاماً, وتتحول العلاقة بينهما فجأة من الود الحار وكرم الضيافة إلى عراك بدنى يخسره كارل, وتتركه كلارا فى الحجرة المعتمة بعد أن تصف له الطريق إلى حجرتها. ويقرر كارل مغادرة البيت فوراً والعودة إلى نيويورك, لكنه يتوه ويتخبط فى العتمة حين يحاول العودة إلى البهو حيث يجلس بولاندر مع صديق له. وبعد تخبط طويل ينقذ أحد الخدم كارل ويقوده نحو بهو الاستقبال. ويلقى كارل خطبة طويلة أمام مضيفه مبرراً رغبته الفجائية فى العودة إلى نيويورك بأن خاله لم يكن متحمساً لهذه الزيارة. وهنا يخرج مستر جرين الذى كان يجالس بولاندر خطاباً من جيب سترته ويعطيه لكارل. ويتضح أن الخطاب من خاله چيكوب أرسله له على وجه السرعة مع ذلك الرجل ويصارحه فيه بأنه يُنهى رعايته له لأنه خالف رغبته وذهب لقضاء العطلة فى ذلك المنزل. ويتطور الكابوس من متاهة فى ردهات البيت المظلمة إلى متاهة أكبر بامتداد قارة مجهولة بأسرها يتيه فيها كارل دون عونٍ أو سند.
وفى تخبطه فى القارة المجهولة يدخل كارل فى كابوس ليخرج منه إلى كابوس, ويظهر له من حين لحين بعض الأمل والنفوس الطيبة التى تساعده وتحتضنه وتنقذه من المخادعين واللصوص, فيعمل بعض الوقت عامل مصعد فى فندق عظيم, لكن المخلوقات الكابوسية لا تلبث أن تطارده وتستعيده فى قبضتها, فيتحول «الفندق الغربي», حيث يعمل, من حلم السعادة والنجاح إلى كابوس جديد: فتلفظه المؤسسة الضخمة وتقهره - فى عودة لمؤسسات روايتى «المحاكمة» و«القلعة» التى تقهر الفرد ـ وتطرده من جنتها, ليلتقطه «مأوي» الفصل السابع- وبئس المأوي! فبعد كوابيس المتاهة والمحاكمة الظالمة فالمطاردة يضاف كابوس السجن, لأن البيت الذى آواه كان فى الحقيقة بيت الأوغاد الذين سرقوه فى أول الحكاية وها هم يستعبدونه الآن رغم أنفه!
لكنّ العجيب فى الامر, بعد كل هذه الكوابيس, أن رواية «أمريكا» تنتهى نهاية سعيدة. فبعد انتهاء الفصل السابع, تحدث قفزة سردية وفجوة سببها أن كافكا لم يكمل الرواية, فلا يعلم القارئ كيف نجا كارل من فخ الاعتقال.
لكننا نراه فى الفصل الثامن المعنون بـ «مسرح أوكلاهوما الطبيعي» واقفاً أمام إعلان عن فرصة عمل فى منطقة نائية فى أعماق القارة تمنحه الحلم الأمريكى وفرصة الحياة من جديد. ويستقل كارل القطار بصحبة زميل قديم من صبية المصعد بالفندق الغربيّ, وينطلق بهما القطار فى مساحات الخضرة الشاسعة والطبيعة المفتوحة, ورذاذ الشلالات الجبلية يداعب خدهما.. وللحديث بقية
نقلا عن الاهرام القاهرية