بقلم-بهاء جاهين
من ضمن الإصدارات المهمة للمركز القومى للترجمة كتاب بهذا العنوان يجمع مختارات ضخمة من الشعر الفرنسى تربو على مائة قصيدة بقلم المترجم المبدع الأستاذ الدكتور حمادة إبراهيم[ الطبعة الثانية- 2009]. وقد اختار المترجم لمختاراته عنواناً ذكياً يشد القارئ, وفى الوقت نفسه يعبِّر عن طبيعة هذه المختارات, بل وطبيعة الشعر والإبداع عموماً؛ فلا إبداع يخلو من الحب, بفنونه أى أنواعه المختلفة, كما حرص الدكتور حمادة إبراهيم فى مقدمته الجميلة أن يوضحها لنا ويعددها: فإضافة للمعنى الشائع, وهو الحب الغراميّ بين رجل وامرأة, هناك الحب الإلهيّ ؛ وهناك حب الطبيعة؛ وحب الوطن؛ والحب العائلي؛ وحب الإنسان للإنسان أو التعاطف الإنساني؛ وحب الشعر والإبداع ؛ وحب الحياة نفسها. وقد اعتمد د. حمادة إبراهيم على هذه الأنواع أو الفنون المختلفة فى تبويب مختاراته, إلا أنه يلفتنا فى مقدمته أننا قد نجد فى قصيدة واحدة أنواعاً وفنوناً متعددة من الحب. ومن أكثر القصائد احتشاداً بتلك الفنون من الحب- وغيرها مما لم يخطر على بال المترجم, لكنها بالتأكيد شغلت شاعراً سمَّى مجموعة أشعاره كلها أزهار الشر- تلك القصيدة التى اختارها لبودلير بعنوان البَرَكة, والتى تحتدم فيها ألوان شتَّى متناقضة متصادمة من الحب تصطف فى جيشين متطاحنين: فهناك فى جانب, حب الخالق للمخلوق والمخلوق للخالق, وحب المرأة والطبيعة والشعر والجمال والإبداع؛ وفى الجانب الآخر حب الذات, وحب الشر والتحطيم, وحب تعذيب المحبوب, وحب الشاعر وتقديسه للألم.. فى قصيدة غنية وطويلة نسبياً اخترتها لجمالها الفائق ولتعبيرها عن موضوع المختارات التى أبدع المترجم فى نقلها من الفرنسية؛ وهذا ليس جديداً عليه, فقد استمتعت من قبل بترجمته للأعمال الكاملة للكاتب المسرحى الرومانى يوجين يونسكو فى مجلدين ضخمين. والآن إلى قصيدة بودلير. يبدأ الشاعر قصيدته بنقيض الحب؛ بنموذج متطرف وشاذ للكراهية؛ كراهية الأم لمولودها: «حينما خرج الشاعر إلى هذا العالم المنكود/../ لوحت أمه بقبضتها نحو السماء/ مذعورة تصب اللعنات متوسلة مستعطفةً: آه, لماذا لم أنجب سرباً من الأفاعي/ بدلاً من أن أقوم على تغذية هذا المخلوق الشائه؟!».. أما الشاعر فيستجير بالحب الإلهى وجمال الطبيعة التى خلقها الله, حين يقول: «ولكن الطفل المعقوق المنبَت/ راح يسكر من ضوء الشمس/ فى كفالة مَلَك خفيّ/../ أما الملاك الذى يرعاه فى طوافه/ فكان يبكى إذ يراه سعيداً كطائرٍ فى غابة». لكن بودلير المهووس بفكرة الشر, والذى كان يعانى دون شك من شعور بالاضطهاد, سرعان ما يرتد لنوع قاتم من الحب يفوق فى شره الكراهية, فيقول عن أصدقائه: «أما سائر من يكنون له الحب فجعلوا يتربصون به/../ ويمارسون عليه قسوة القلب/ وفى الخبز والنبيذ المخصص لغذائه/ خلطوا الرماد والبصاق القذر»... ثم ينتقل لزوجته, وإلى نوع كريه آخر من الحب, هو حب الذات إلى حد تأليهها: «أما زوجته فراحت تصيح فى الساحات قائلةً: مادام يحبنى حتى العبادة/ فسأتبع معه طريق المعبودات القدامي/ وأعيد طلاء جسدى بالذهب/../ ثم أنزع من أحشائه هذا القلب/ كطائر غضٍّ يرتعد ويرتجف».. ثم يرتد الشاعر مرة أخرى، كالبندول, إلى أحضان البركة الربانية ورحمة الإبداع الشعري, فينهى قصيدته وقد انتصر على أعدائه وعلى الشر الأرضيّ بالأمجاد الشعرية السماوية: «نحو السماء, حيث رأت عينه عرشاً رائع المنظر/ رفع الشاعر الخاشع عينيه المتضرعتين/ والأنوار الهائلة؛ أنوار قريحته المستنيرة/ تحجب عنه منظر الجموع الغاضبة: تباركتَ ربي, تمنح الألم, دواءً إلهياً لآثامنا».
نقلا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع