بقلم : بهاء جاهين
من أقرب ما قرأت إلى روح الشعر كتاب اكتشفته مؤخراً, متأخراً عن ميعاد صدوره, هو رواية المبدع رضا البهات الأولى بشاير اليوسفى التى صدرت طبعتها الثانية عن دار بدائل 2015. لمحت عنوانها على غلاف جميل فأخذنى إلى بساتين الطفولة ورائحة اليوسفى البكر المشحونة بشجن الحنين. وكما يقال: الكتاب يبين من عنوانه. فتحتُ الرواية وأنا على يقين أن هذا العنوان البسيط المتوهج, كقنديل برتقالي, سيقودنى إلى حديقة جمال أدبى يسكنها الطير. الرواية الصغيرة المكثفة كقنبلة يدوية تنقسم لجزءين, الأول يحمل نفس عنوان الرواية بشاير اليوسفي, والثانى بعنوان المبدولون. يحكى الجزء الأول عن تجربة الشاب الراوى فى الجيش. ويتتبع البهات فى الكتابة تقنية تيار الوعي, حيث تبدأ الرواية بالفتى المجند ذى الأصول الريفية مسافراً بالقطار من قريته المتاخمة لمدينة المنصورة لمقر تجنيده بالسويس, فى عربة مزدحمة برفاقه العساكر وبأهل الريف, فى شتاء بعيدٍ الآن, فى آخر 1973, بُعَيد حرب أكتوبر. تصعد العربة امرأة تبيع اليوستفندى فى أوله, فتشيع فى المكان روح الألفة بين العساكر المجندين والفلاحات الشابات وفلاحة عجوز مسافرة للبحث عن ابنها الذى غاب فى الحرب ولم يزرها من زمن, حيث يشترك الجميع فى طقس التهام الفصوص الصغيرة الغنية بالعصير.. حتى يتغير المشهد حين يمر القطار على مقابر الشهداء الذين دفنهم زملاؤهم فى صحراء السويس أثناء المعركة, فيأخذ المنظر بطل الحكاية وراويها الواقف فى النافذة - يأخذه إلى تجربة إنسانية انحفرت فى وجدانه فى الأيام الأخيرة من الحرب أثناء اقتحام الدفرسوار وحصار السويس متذكراً رفاقه الذين استشهدوا فى أحضانه. ثم يأخذنا مشهد العمارة السكنية المقصوفة وراء خندقه إلى المهجرين من مدن القناة الذين شاركوا أهل المنصورة السُكنى وأفراح الحياة وأشجانها أثناء حرب الاستنزاف. وينتهى الجزء الأول بوقف إطلاق النار, ليأخذنا الجزء الثانى المبدولون إلى القاهرة فى النصف الثانى من السبعينيات.. ولكن قبل أن نذهب إلى هناك, يجب أن نتحدث عن مكمن الشعر فى الجزء الأول. إنها الذات الجماعية؛ الروح التى تسرى فى الآحاد المفردة فتوحدها وتُثريها, كأنها قلب واحد يدق فى عشرات بل آلاف وملايين الصدور: فى عربة القطار, وفى ذكريات المجند فى الخندق بين الجنود, وفى حوارى الطفولة والصبا والتحام أهل القناة بأهل المنصورة رغم ما كان ينشب من شجار وتزاحم, وفى وجدان المجند الراوى حين يرى أطلال بيوت السويس وما خلّفه من رحلوا وراءهم من أمارات الحياة؛ تنصهر فى ذلك الوجدان تجارب المنصورة بخيالات السويس فكأنه عاش تفاصيل صباه هنا حيث يقف الآن , تفور فى ذاكرته وخياله كل طقوس الحياة اليومية وهو واقف بين أطلال السويس ليصير الهُناك والهُنا احتفالاً واحداً بالوجود. إنها حكاية شعب متلاحم زادته توحدا وانصهارا تجربة الحرب.. ولكن ما حدث بعد الحرب حكاية أخري. فى الجزء الثانى «المبدولون», يحرص الراوى الذى سُرح من الجيش على أن يجد عملاً فى القاهرة التى قضى فيها سنوات الجامعة وأحب زميلة له, والآن يريد سُكنى القاهرة ليبنى عُش الحب. لكنّ فتاته تنكره وتتنكر له, وتنبئه شوارع القاهرة مع مرور أيام النصف الأخير من السبعينيات أن أهلها أبُدِلوا فصاروا غير ما كانوا, وأن الفردية حلت محل الذات الجامعة, فأفقرت الروح وعزلتها حتى اختنقت. فالرواية فى جزئها الأول احتفال بالحياة المصرية, حيث الكل فى واحد, رغم مرارة الحرب؛ وفى جزئها الثانى مرثية لتلك الذات الجامعة, وللأرواح الصغيرة المعزولة التى فقدتها, فى سنوات الانفتاح وفلسفة التماس الغِنى والخلاص الفردى .. بشاير اليوسفي, التى صدرت طبعتها الأولى عام 1992, كانت حقاً بُشرى للحركة الأدبية بميلاد موهبة حقيقية سرعان ما أضافت أعمالاً متميزة.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع