توقيت القاهرة المحلي 13:28:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«بشاير اليوسفى»

  مصر اليوم -

«بشاير اليوسفى»

بقلم : بهاء جاهين

من أقرب ما قرأت إلى روح الشعر كتاب اكتشفته مؤخراً, متأخراً عن ميعاد صدوره, هو رواية  المبدع رضا البهات الأولى بشاير اليوسفى التى صدرت طبعتها الثانية عن دار بدائل 2015. لمحت عنوانها على غلاف جميل فأخذنى إلى بساتين الطفولة ورائحة اليوسفى البكر المشحونة بشجن الحنين. وكما يقال: الكتاب يبين من عنوانه. فتحتُ الرواية وأنا على يقين أن هذا العنوان البسيط المتوهج, كقنديل برتقالي, سيقودنى إلى حديقة جمال أدبى يسكنها الطير. الرواية الصغيرة المكثفة كقنبلة يدوية تنقسم لجزءين, الأول يحمل نفس عنوان الرواية بشاير اليوسفي, والثانى بعنوان المبدولون. يحكى الجزء الأول عن تجربة الشاب الراوى فى الجيش. ويتتبع البهات فى الكتابة تقنية تيار الوعي, حيث تبدأ الرواية بالفتى المجند ذى الأصول الريفية مسافراً بالقطار من قريته المتاخمة لمدينة المنصورة لمقر تجنيده بالسويس, فى عربة مزدحمة برفاقه العساكر وبأهل الريف, فى شتاء بعيدٍ الآن, فى آخر 1973, بُعَيد حرب أكتوبر. تصعد العربة امرأة تبيع اليوستفندى فى أوله, فتشيع فى المكان روح الألفة بين العساكر المجندين والفلاحات الشابات وفلاحة عجوز مسافرة للبحث عن ابنها الذى غاب فى الحرب ولم يزرها من زمن, حيث يشترك الجميع  فى طقس التهام الفصوص الصغيرة الغنية بالعصير.. حتى يتغير المشهد حين يمر القطار على مقابر الشهداء الذين دفنهم زملاؤهم فى صحراء السويس أثناء المعركة, فيأخذ المنظر بطل الحكاية وراويها الواقف فى النافذة - يأخذه إلى تجربة إنسانية انحفرت فى وجدانه فى الأيام الأخيرة من الحرب أثناء اقتحام الدفرسوار وحصار السويس متذكراً رفاقه الذين استشهدوا فى أحضانه. ثم يأخذنا مشهد العمارة السكنية المقصوفة وراء خندقه إلى المهجرين من مدن القناة الذين شاركوا أهل المنصورة السُكنى وأفراح الحياة  وأشجانها أثناء حرب الاستنزاف. وينتهى الجزء الأول بوقف إطلاق النار, ليأخذنا الجزء الثانى المبدولون إلى القاهرة فى النصف الثانى من السبعينيات.. ولكن قبل أن نذهب إلى هناك, يجب أن نتحدث عن مكمن الشعر فى الجزء الأول. إنها الذات الجماعية؛ الروح التى تسرى فى الآحاد المفردة فتوحدها وتُثريها, كأنها قلب واحد يدق فى عشرات بل آلاف وملايين الصدور: فى عربة القطار, وفى ذكريات المجند فى الخندق بين الجنود, وفى حوارى الطفولة والصبا والتحام أهل القناة بأهل المنصورة رغم ما كان ينشب من شجار وتزاحم, وفى وجدان المجند الراوى حين يرى أطلال بيوت السويس وما خلّفه من رحلوا وراءهم من أمارات الحياة؛ تنصهر فى ذلك الوجدان تجارب المنصورة بخيالات السويس فكأنه عاش تفاصيل صباه هنا حيث يقف الآن , تفور فى ذاكرته وخياله كل طقوس الحياة اليومية وهو واقف بين أطلال السويس ليصير الهُناك والهُنا احتفالاً واحداً بالوجود. إنها حكاية شعب متلاحم زادته توحدا وانصهارا تجربة الحرب.. ولكن ما حدث بعد الحرب حكاية أخري. فى الجزء الثانى «المبدولون», يحرص الراوى الذى سُرح من الجيش على أن يجد عملاً فى القاهرة التى قضى فيها سنوات الجامعة وأحب زميلة له, والآن يريد سُكنى القاهرة ليبنى عُش الحب. لكنّ فتاته تنكره وتتنكر له, وتنبئه شوارع القاهرة مع مرور أيام النصف الأخير من السبعينيات أن أهلها أبُدِلوا فصاروا غير ما كانوا, وأن الفردية حلت محل الذات الجامعة, فأفقرت الروح وعزلتها حتى اختنقت. فالرواية فى جزئها الأول احتفال بالحياة المصرية, حيث الكل فى واحد, رغم مرارة الحرب؛ وفى جزئها الثانى مرثية لتلك الذات الجامعة, وللأرواح الصغيرة  المعزولة التى فقدتها, فى سنوات الانفتاح وفلسفة التماس الغِنى والخلاص الفردى .. بشاير اليوسفي, التى صدرت طبعتها الأولى عام 1992, كانت حقاً بُشرى للحركة الأدبية بميلاد موهبة حقيقية سرعان ما أضافت أعمالاً متميزة.

نقلا عن الآهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«بشاير اليوسفى» «بشاير اليوسفى»



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon