قال الأديب الكولومبى الحاصل على نوبل جابرييل جارثيا ماركيز عن التشيكى فرانز كافكا - الذى كان يكتب بالألمانية - بعد أن قرأ قصته القصيرة «المسخ» فى مرحلة مبكرة نسبياً من حياته - قال إن هذه القصة هى أول ما لفته ونبهه أنه يمكن أن يكتب بشكل مختلف. ولم يكن كافكا (1924-1883) قد حصل, فى حياته القصيرة المزدحمة بالإبداع, على جائزة نوبل؛ بل إنه مات ولم يُنشر من إنتاجه الرائد فى فن القصة والرواية إلا النذر القليل, ولم تعرفه إلا دائرة ضيقة من الكتاب والنخبة المثقفة فى مدينته براج.
مات كافكا بالسُلّ وهو فى الأربعين تاركاً كل ما كتب بين يدى صديقه وابن مدينته الكاتب ماكس برود, موصياً إياه أن يحرق كل ما لم يُنشر منه - وهو معظم ما كتب - وأما ما كان قد نُشر فأوصاه ألا يعيد نشره. ولولا أن برود قد أبى أن يشارك صديقه فى جريمة هذا الانتحار الأدبى, بل فعل العكس تماماً ونشر كل ما تركه صديقه بين يديه, لما عرف العالم كافكا, الذى أسهمت رواياته وقصصه إسهاماً عريضاً فى تأسيس حداثة القرن العشرين.
بل إن كافكا من الأدباء القلائل فى التاريخ الذين يرتبط باسمهم منهج فى الكتابة؛ وفى حالة كافكا يكاد ذلك النهج أن يكون نوعاً أدبياً قائماُ بذاته يسميه نقاد الأدب (Kafkaesque) , حيث تختلط الواقعية بمنطق الحلم, وبالتحديد الكابوس.
والبطل إنسان صغير, إنسان عادى يعطيه كافكا اسماً هو حرف واحد (ك), الحرف الأول من اسم الكاتب نفسه. يواجه ذلك الإنسان العادى الصغير مأزقاً كابوسياً غير عادى, ليس مرعباً بل مزعج وغامض، حيث هناك قوة أكبر منه بكثير, مؤسسة بيروقراطية هائلة, مثل القضاء فى روايته «المحاكمة», تواجهه وتسحقه. يجد ذلك الشخص العادىّ نفسه ذات صباح متهما بتهمة مُبهمة أمام هيئة قضائية ترسل بعض موظفيها لإلقاء القبض عليه. ويتمدد الكابوس ليجد (ك) نفسه مضطراً للترافع عن نفسه واقفاً أمام موظفى هذه المؤسسة القانونية البيروقراطية الغامضة, يسوق الحجج والبراهين إزاء تهمة لا يعرف ما هى بالتحديد, أو ينتظر فى أروقة ذلك المبنى الحكومى كالح الجدران, متشعب الأروقة كالمتاهة..
نفس المتاهة تتكرر فى روايتيه «القلعة» و«أمريكا». وفى «القلعة» البطل يحمل نفس الاسم الذى هو (ك). وهو هنا موظف صغير يصل إلى قرية تحكمها هيئة بيروقراطية كبرى تمارس مهامها من قلعة عظيمة منيعة يحاول (ك) النفاذ إليها للقيام بمهمة يزعم أن القلعة نفسها استدعته للقيام بها. إلا أن التعقيدات والمتاهات البيروقراطية تحول دون ذلك, وتأبى السماح له بممارسة ذلك العمل ويستعصى عليه دخول القلعة أو حتى حق الوجود فى القرية. ويموت (ك) دون أن تستجيب له القلعة, لكنها, وهو على سرير الاحتضار, تعلن أنه برغم أن موقفه القانونى وأوراقه لا تعطيه حق العيش فى القرية, إلا أن القلعة لظروف استثنائية ستسمح له بالحياة والعمل فى تلك القرية. وقد مات كافكا دون أن يُكمل الرواية, لكنه أسرّ بنهايتها تلك لأصدقائه.
وكذلك لم يُكمل كافكا روايته الثالثة «أمريكا», التى تتكرر فيها أيضاً تيمة الغربة وانسحاق الفرد أمام مؤسسة ظالمة وقاهرة؛ لكن روايته أمريكا تنفرد بأنها تمثل أيضاً فكرة البدء من جديد والهروب من آثام حياة سابقة إلى منحة حياة أخرى متجددة, وتعكس غرام كافكا باتساع الأراضى الشاسعة والطبيعة المفتوحة الممتدة. والبطل فيها طفل تقريباً, فهو فى السادسة عشر، وقد كبر الاسم من (ك) إلى كارل, إلا أن بطلها رغم هذا الاختلاف يواجه جوهرياً نفس الكابوس ونفس المأزق.. كما سنرى إن شاء الله فى المقالة المقبلة.
نقلا عن الاهرام القاهريه