بقلم :محمد المنشاوي
دفع قرار الرئيس الأمريكى الأخير بنقل القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا الكثير من الخبراء إلى طرح سؤال يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية فى سوريا. ومن الصعب الرد على هذا التساؤل المشروع لأسباب عدة، على رأسها أننا أمام قضية تتشابك أبعادها المحلية والإقليمية والدولية بصورة معقدة نادرة، ونحن أيضا أمام رئيس أمريكى غير تقليدى لا يعترف بالحسابات التقليدية للسياسة الخارجية الأمريكية. ربما يتصور ترامب أن له رؤية تجاه سوريا، لكن أغلب الأمر أن قرارات ترامب تجاه سوريا تعكس عدم وجود تصور واضح للأزمة أو أبعادها أو تداعياتها أو طرق إنهائها.. لكننى لا ألومه على ذلك.
***
الأهم من البحث عن استراتيجية ترامب هو محاولة فهم الإطار الذى يتحرك فيه ترامب ويؤثر على قراراته السابقة وخطواته المقبلة بخصوص الأزمة السورية وغيرها من أزمات الشرق الأوسط، والتى يمكن تلخيص بعضها على النحو التالى:
أولا: أيقن ترامب أنه لا توجد مصالح مباشرة لواشنطن فى سوريا خاصة بعد القضاء على تنظيم داعش. وقبل ترامب يمكن تفهم عدم تحرك إدارة الرئيس السابق أوباما بجدية فى سوريا حتى مع تخطى نظام الأسد الخطوط الحمراء واستخدم أسلحة كيميائية فى 2013. دواعى قلق واشنطن فى سوريا تتعلق بتوسع نفوذ إيران فيها ولعبها دورا مهما ساعد فى الحفاظ على نظام الأسد، وما عكسته الأزمة السورية من عودة النفوذ الروسى لسوريا ولمنطقة الشرق الأوسط والذى أحدث قلقا كبيرا فى دوائر الدفاع والمخابرات الأمريكية، لكنه لا يعكس قلقا كبيرا لدى الرئيس ترامب.
ثانيا: التخبط فيما أعلنه ترامب شخصيا من أن أول أهدافه فى سوريا يتمثل فى القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم داعش، ثم الانسحاب من سوريا، والحديث عن أن الأسد جزء من المشكلة. وفى الأزمة الحالية استخدم ترامب لغة حادة جدا فى الحديث عن تركيا، وتعهد ترامب بالقضاء على الاقتصاد التركى حال تخطت تركيا الحدود المقبولة فى هجومها، ثم غرد ترامب ليشيد بالعلاقات مع تركيا.
ثالثا: إدراك ترامب أن واشنطن ليست اللاعب الأهم حتى الآن فى الأزمة السورية. فلتركيا وجود قوى وأهداف وإجراءات وتحركات على الأرض. ونفس الشيء مع روسيا التى لولا تدخلها لسقط نظام الأسد قبل سنوات، وهناك أيضا إيران وإسرائيل.
***
إلا أن أهم ما يتعلق بإدارة ترامب ووجود استراتيجية من عدمه حول سوريا يتعلق بنقطتين أخيرتين:
أولا، إدراك ترامب الصحيح أن سوريا لا تمثل أزمة حقيقية لواشنطن، فسوريا ليست مصر ولا السعودية من حيث ارتباطها المباشر بالمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، ولا توجد علاقات عسكرية بينهما، ولا تربط دمشق بإسرائيل علاقات رسمية أو معاهدة سلام يتوجب الحفاظ عليها.
الحقيقة الثانية تمثلت فى تبنى ترامب لما يطلق البعض عليه مبدأ أوباماObama Doctrine، والذى يستبعد معه الرئيس الأمريكى استخدام القوة المسلحة إلا للضرورة القصوى، التى تمثل تهديدا واضحا مباشرا للأمن القومى الأمريكى، ولم تمثل سوريا تهديدا لمصالح واشنطن. ويرى ترامب أن بلاده تورطت فى الحرب فى أفغانستان لأكثر من 18 عاما ولم تخرج واشنطن بعد من مستنقع العراق بعد مرور 16 عاما على غزوه.
***
وتعيدنا أجواء الأيام الماضية إلى ما جرى قبل أقل من عام، وأقصد هنا الخلافات الجوهرية بين أفكار وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس والرئيس ترامب. وجاء قرار ترامب الفردى بانسحاب قوات من سوريا وبدء سحب آلاف الجنود من أفغانستان ليضع نهاية لمهام وزير الدفاع الذى لا يخفى معارضته لهذه السياسيات. ويبدو أن ترامب مدفوعا بحسابات السياسة الداخلية الأكثر أهمية له خلال العام الباقى قبل خوض الانتخابات الرئاسية بعد 13 شهرا من الآن. وتعرض ترامب لانتقادات من أعضاء جمهوريين وديمقراطيين من داخل مجلسى الكونجرس بسبب تحركاته لإنهاء الوجود الأمريكى فى سوريا.
***
وداخليا تدعم الكتلة المحافظة اليمينية المؤيدة لترامب تحركاته، وكتب السياسى المحافظ المخضرم بات بوكانان مدافعا عن سياسة ترامب قائلا: «يقوم ترامب بفعل ما وعد به بدقة خلال حملته الانتخابية. وهدف قراراته الأخيرة هى سحب جنودنا من الحروب التى لا تعرف نهاية فى الشرق الأوسط، والتى كان من الغباء التورط فيها على يد الرؤساء السابقين. وعلى حكام وشعوب تلك الدول أن تستمر فى حروبها بدون جنودنا الأمريكيين». وأضاف بوكانان أن «أمريكا ليست قوة مطلقة لتحارب حروبهم، عندنا تحديات أكبر تتعلق بالصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران».
وجاء توقيت قرار ترامب فى الوقت الذى تعرف فيه واشنطن مواجهة حادة بين ترامب والديمقراطيين على خلفية بدء تحقيقات قد تنتهى بالتصويت داخل مجلس النواب لعزل الرئيس. وخرجت وسائل إعلام محافظة لتضغط على ترامب كى لا يضعف أمام قادة الحزب الديمقراطى. وذكرت محطة فوكس أن على ترامب الاستمرار فى تنفيذ وعوده الانتخابية، والتى منها أيضا سحب القوات الأمريكية من سوريا وإنهاء الوجود العسكرى فى أفغانستان.
وبقرار ترامب سحب القوات من سوريا، يفتح ترامب جبهة جديدة فى صراعه مع أجهزة الدولة الأمريكية العميقة، وهو ما يلقى رواجا وقبولا بين أوساط قاعدته الانتخابية التى تدين بالولاء له. ذلك فى الوقت الذى يستعد ترامب فيه لمواجهات كبيرة مع عدة لجان فى مجلس النواب على خلفية تحقيقات العزل.