بقلم - محمد المنشاوي
تخطت أزمة الإغلاق الجزئى للحكومة الأمريكية كل السوابق التاريخية، التى لم تتخط على الإطلاق الشهر الواحد، ووصلت لخمسة وثلاثين يوما. ومع الانفراج المؤقت للأزمة قبل أسبوع، لا أشك فى تجدد الأزمة وصولا لإغلاق جديد يبدأ فى الخامس عشر من فبراير، أو أن يتخذ الرئيس دونالد ترامب قرارا غير مسبوق ويعلن حالة الطوارئ القومية على منطقة الحدود الجنوبية، وما يتبعه من السماح ببناء السور الحدودى الفاصل مع المكسيك من ميزانية بناء وصيانة البنية الأساسية التابعة لوزارة الدفاع.
ويطالب الرئيس ترامب بتضمين مبلغ 5.7 مليار دولار لإنشاء جدار فاصل عند الحدود الجنوبية المتاخمة للمكسيك لوقف الهجرة غير الشرعية وتنفيذا لوعده الانتخابى ببناء السور. ويرفض الديمقراطيون الفكرة شكلا وموضوعا. من هنا يبرز الخلاف بين ترامب والديمقراطيين حول المخصصات المالية للسور وغيره من البرامج ذات الصلة، وبسبب عدم الوصول لحل وسط تم إغلاق جزئى للحكومة الفيدرالية بدءا من يوم 22 ديسمبر الماضى. ويتمثل الحل تقليديا فى تبنى معدلات إنفاق العام المالى السابق 2018، وهو ما لا يلبى رغبة ترامب فى تمويل الجدار، لذا وقعت حالة الأزمة والإغلاق.
***
يقصد بالإغلاق عدم توفر موارد مالية للإنفاق على هذه الوزارة أو تلك المؤسسة، وعليه تضطر لإغلاق أبوابها. تعتمد كل الجهات الحكومية لتسيير أعمالها على مخصصات مالية يحددها الكونجرس سنويا قبل بدء العام المالى (1 أكتوبر ــ 30 سبتمبر). ويمرر الكونجرس تقليديا مشروع الميزانية بعد مفاوضات طويلة بين الحزبين ومختلف الجهات المتأثرة بهذه الميزانية، ثم تعرض على الرئيس للتوقيع عليها. وينقسم مشروع الميزانية إلى 12 مشروع إنفاق تتبع اللجان الفرعية الـ 12 التابعة للجنة المخصصات بمجلس النواب.
وقبل أكتوبر الماضى مرر الكونجرس مخصصات خمس لجان فرعية تمثل 75% من أعمال الحكومة الفيدرالية، ولم يتم الاتفاق على مخصصات سبع لجان فرعية حتى اليوم وهى تمثل 25% من الأعمال الحكومية. وجرى تمويل أنشطة هذا الجزء لعدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية عن طريق ما يسمى CR وهو ما يمكن أن يشار إلى أنه «تشريع مستمر من العام السابق»، أى اعتماد مخصصات مساوية لمخصصات العام الماضى.
وبدأ الإغلاق الجزئى للحكومة عندما تعهد ترامب برفض أى تشريع تمويل حكومى لا يشمل مخصصات بناء الجدار الحدودى. واضطرت الجهات الحكومية التى لم يشملها ما جرى تمريره من مشروع الميزانية لإغلاق أبوابها انتظارا لتمرير مشروع التمويل الحكومى، وهو ما لم يتفق عليه بعد.
***
لم تتأثر مخصصات وزارات الدفاع والمحاربين القدامى والطاقة والعمل والتعليم والصحة والتنمية الإنسانية بالإغلاق. ولم تحسم مناقشات قوانين التمويل الحكومى مخصصات ترتبط بوزارات الزراعة والداخلية والخارجية والإسكان والأمن الداخلى والبيئة والعدل والنقل. ويستثنى من هذه الوزارات من تتعلق أعمالهم بالأمن والحراسة أو أعمال حماية الممتلكات والمنشآت الخاصة والعامة.
خلال فترات الغلق لا يحصل العاملون بهذه المؤسسات، الذين يقدر عددهم بـ420 ألف موظف، على أجورهم، فى حين يضطر 400 ألف آخرين لأخذ إجازة غير مدفوعة. ويحصل العاملون بالولايات المتحدة على مرتباتهم كل أسبوعين، وتسبب الإغلاق الجزئى بمأساة مالية لآلاف العائلات، إذ لم يستطيعوا الوفاء بالتزاماتهم المالية الكبيرة فى أوقاتها كأقساط امتلاك المنازل أو أقساط السيارات أو تكلفة تعليم أبنائهم.
ولا يقتصر الضرر على الموظفين الفيدراليين، فهناك أيضا المتعاقدون ممن يعملون مع الحكومة الفيدرالية. ولم يتلق ما يقترب من مليونين من المتعاقدين مرتباتهم أيضا، حيث إن شركاتهم توقفت عن العمل لصالح الحكومة الفيدرالية. ويقدر عدد المتعاقدين الحكوميين بما يقرب من 4.1 ملايين متعاقد من خلال عشرات الآلاف من الشركات المتوسطة والصغيرة. وبلغت قيمة تعاقدات تلك الشركات مع الحكومة الفيدرالية العام الماضى 465 مليار دولار. ويقوم المتعاقدون بالعديد من الوظائف لصالح الجهات الحكومية، وتتركز بصفة عامة فى مهام الأمن والحراسة والتسويق والأبحاث الميدانية والبرمجيات والتطوير التكنولوجى.
***
يتمسك ترامب بموضوع بناء السور لكونه أحد أهم وعوده الانتخابية لقواعده الشعبية المحافظة والمعادية للمهاجرين. وطالما تفاخر ترامب بتنفيذه لوعوده الانتخابية، لذا يدرك أن بناء الجدار سيكون جواز السفر للمرور لفترة رئاسية ثانية (إذا أبعدنا تحقيقات روبرت مولر الخاصة بروسيا جانبا). ويدرك الديمقراطيون كذلك أن بناء الجدار سيعنى إعادة انتخاب ترامب بسهولة، لذا يحاولون حرمانه من هذه الميزة. إضافة لرفض الجناح الأكثر ليبرالية بالحزب لسياسات التشدد مع المهاجرين.
لدى الحزب الديمقراطى أغلبية 235 عضوا مقابل مائتى عضو للجمهوريين بمجلس النواب، أى إنه يتمتع بأغلبية لا تتخطى نسبة 55%من الأصوات. أما فى مجلس الشيوخ فيتمتع الجمهوريون بأغلبية 53 مقعدا مقابل 47 للديمقراطيين. ومن الصعب تخيل وصول العدد المؤيد لقرار الرئيس أو المعارض له إلى 60 صوتا بمجلس الشيوخ، وأن يتخطى نصف عدد أصوات مجلس النواب، وهى الأصوات المطلوبة لتمرير مشروعات قوانين الإنفاق المالى. من هنا لا بديل عن التوافق على حل وسط لا يلبى كل رغبات الطرفين.
مشروعات قوانين الميزانية مثلها مثل أى قانون، ينبغى الحصول على موافقة مجلسى الكونجرس قبل إقراره من قبل الرئيس. ويملك الرئيس حق الفيتو ورفض القرارات، إلا أن الكونجرس يستطيع إلغاء الفيتو الرئاسى بأغلبية الثلثين من الأعضاء. غير أنه مع حالة الاستقطاب الحالية لا يتصور إمكانية إلغاء قرار لترامب من الأعضاء الجمهوريين بمجلسى الكونجرس.
يستطيع الرئيس منفردا تفعيل أمر رئاسى طبقا لـ«قانون الطوارئ القومى»، حيث يبلغ الرئيس الكونجرس بوجود أزمة طارئة وإعلان ما يتطلب للتعامل معها. وهنا يختار ترامب أن يقول إن هناك أزمة عند الحدود الجنوبية ويأمر الجيش ببناء الجدار من ميزانية وزارة الدفاع. ويقول ترامب إنه قد يلجأ لهذا البديل فى حال سدت كل الطرق أمامه لبناء الجدار. ولن يبقى إلا القضاء والمحاكم الأمريكية كجهة وحيدة لتحدى قرار الرئيس.
***
خلال أسبوعين سنعرف إلى أين تتجه أمريكا، ولكن وبغض النظر سنستمر فى مشاهدة درس راق فى الممارسة الديمقراطية.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع