بقلم - محمد المنشاوي
تدفع التطورات المتسارعة حول تحقيقات التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية الرئاسية الأخيرة، والتى أكدت كل أجهزة الاستخبارات الأمريكية تدخل موسكو لدعم حملة دونالد ترامب، إلى ضرورة التعرض لسيناريوهات مختلفة قد تدفع بعضها لتغيرات دراماتيكية لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل، إلا أنه فى الوقت ذاته يجب الحذر من المبالغة غير الموضوعية والتى يقع فيها الكثيرون ممن يتابعون الشأن الأمريكى الداخلى.
وبدأ التعامل الرسمى مع قضية التدخل الروسى قبل إجراء الانتخابات فى نوفمبر 2016، إلا أن خطوة تعيين محقق مستقل عن طريق وزارة العدل، وبدعم كامل من مجلسى الكونجرس، الذى يسيطر على مجلسيه أغلبية جمهورية، كان نقطة الانطلاق الأساسية للقضية الأولى التى تشغل بال الأمريكيين داخليا، والتى دفعت الملايين منهم للعودة والاطلاع على أبجديات كتب السياسة والقانون فيما يتعلق بطبيعة نظام الحكم وتوزيع مصادر القوة بين سلطات الحكم الثلاث ألا وهى البيت الأبيض الذى يأتى على قمة الجهاز التنفيذى للدولة، والجهاز القضائى، والكونجرس ذى السلطة التشريعية.
***
بعدما طالب الكونجرس وزارة العدل بالتحقيق فى هذه الاتهامات، وتجنبا للشعور بالحرج، تنحى وزير العدل جيف سيشن من الإشراف على عملية التحقيقات بعد بدئها، ومثل ذلك ضربة كبيرة للرئيس ترامب الذى اعتقد أن ولاء وزير العدل «سيشن» له كفيل بإنهاء التحقيقات فى الوقت المناسب، ذهبت صلاحيات وزير العدل لنائبه رود روزنشتاين الذى سمى محققا خاصا بصلاحيات كبيرة للتحقيق فى التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية، وتم اختيار روبرت مولر، وهو مدير سابق لـ FBI ويحظى باحترام ومصداقية عالية، وفى مصوغات تعيين مولر، تم السماح له ولفريقه بالبحث عن أى جرائم أو مخالفات قانونية قد تكون لها، أو لا تكون لها، تبعات على التحقيق فى عملية التدخل الروسى. واتسعت دائرة البحث لتشمل كل من له أو كان له علاقة بالانتخابات، ومن دوائر الأشخاص القريبين من العملية الانتخابية. وهدفت هذه الخطوة طبقا لعرف الممارسات القضائية فى القضايا الكبرى إلى أن تمثل وسيلة ضغط على صغار المسئولين ممن يتم إدانتهم فى مخالفات محدودة من أجل التوصل لتسويات معهم تمنحهم حصانة وعدم تنفيذ ما يصدر من أحكام مقابل التعاون والإفصاح عما لديهم عن كبار المسئولين، أو بمعنى آخر، «إدانة السمك الصغير من أجل كشف مخالفات السمك الأكبر».
***
تم إقالة مستشار الأمن القومى السابق مايكل فلين لكذبه على نائب الرئيس بخصوص لقاءات سرية له مع السفير الروسى سيرجى كيسلاك فى واشنطن قبل وبعد فوز ترامب الانتخابات، ثم تمت إقالة مدير الـ FBI جيمس كومى على يد ترامب بعدما رفض طلب الرئيس بالولاء التام له، وبضرورة وقف التحقيقات فى التدخل الروسى، وعدم التشدد مع فلين، وبداية تمثل هذه الخطوة حال إثباتها جريمة متكاملة ارتكبها الرئيس وتتعلق «بإعاقة العدالة». تبع ذلك إقرار مستشار ترامب السابق للسياسة الخارجية جورج بابادوبولوس بالذنب كونه كذب على الـ FBI بخصوص تواصله مع مسئولين روس للبحث والتنسيق فى بعض قضايا السياسية الخارجية، وينتظر صدور حكم عليه يوم 7 سبتمبر القادم. ولا يعرف أحد إذا ما كانت هنا تسوية تلوح فى الأفق يتعاون من خلالها مع سلطة التحقيق، وفى ضربة أخرى لترامب، أقر مستشاره السابق للأمن القومى فلين بالكذب على الـ FBI، وتوصلت وزارة العدل معه إلى صفقة خلاصتها التعاون فى التحقيق وعدم تعرضه للسجن، مقابل الإفصاح عما يعرفه، وفى خطوة أخرى مهمة، اقتحمت سلطات التحقيق منزل المدير السابق لحملة ترامب بول مانفورت يوم 27 يوليو 2017، وصودرت وثائق وأجهزة كمبيوتر، ثم وجهت له تهما جنائية، وأدانته هيئة محلفين فيدرالية بارتكاب ثمانى جرائم مالية قد تصل عقوبتهم إلى قضاء بقية عمره فى السجن. وقبل ذلك بشهور أربعة، تم اقتحام مكتب ومنزل محامى ومساعد ترامب مايكل كوهين فى نيويورك، تم مصادرة أجهزة ووثائق مهمة. وخلال مؤتمره الصحفى فى مدينة هلسنكى بصحبة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، قال ترامب إنه واثق من صدقية ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين من عدم تدخل بلاده فى الانتخابات الأمريكية، ثم جاءت اعترافات المحامى الشخصى السابق لترامب مايكل كوهين، والذى رافقه على مدى سنوات، أمام محكمة بمدينة نيويورك، بالذنب فى ثمانى تهم، مقرا بأنه، وبالتنسيق مع ترامب، دفع مبالغ مالية إلى امرأتين تدعيان إقامة علاقة جنسية مع ترامب، وذلك من أجل شراء سكوتهم «بهدف عدم التأثير فى الانتخابات». فيما يعد مخالفة واضحة لقوانين تمويل الحملات الانتخابية.
ومن ناحية أخرى، يرفض الرئيس ترامب حتى الآن (على الرغم من موافقته المبدئية) الجلوس أمام هيئة التحقيق ليرد على أسئلة المحققين، فى الوقت ذاته يلتزم المحقق موللر الصمت الكامل عما قد يكون فى جعبته ضد الرئيس أو ضد كبار مساعديه وأفراد عائلته. ولا تعرف بعد إذا ما كان ترامب على علم بأى مخالفات، أو أن يكون شجع آخرين على الاستفادة مما لدى الروس ويضر المرشحة المنافسة هيلارى كلينتون.
***
هناك جدل دستورى كبير حول إمكانية توجيه اتهامات جنائية للرئيس الأمريكى أثناء فترة حكمه، وأغلب الخبراء يعتقدون بصعوبة ذلك كون عدم وجود سوابق تاريخية على الإطلاق لتوجيه اتهامات لرئيس فى فترة حكمه. فقط يستطيع مجلس النواب بالكونجرس (حال ما أطلعه المحقق مولر على قيام الرئيس بمخالفات قانونية) التصويت على عزل الرئيس بالأغلبية البسيطة فى خطواتها الأولى، أى أغلبية النصف + 1، ثم يتم محاكمته أمام مجلس الشيوخ ويقتضى موافقة ثلثى الأعضاء كى يصدر أى حكم.. من هنا تتجه كل الأنظار إلى انتخابات الكونجرس القادمة يوم 6 نوفمبر القادم.
ومع الاستقطاب غير المسبوق فى التاريخ السياسى الأمريكى، لا يمكن تصور بدء سيناريو عزل الرئيس، وليس بالضرورة انتهاؤه بهذه الصورة، إلا فى حالتين. الأولى أن يفوز الديمقراطيون بأغلبية مجلس النواب ويتم التصويت الإيجابى على عزله كخطوة أولى، وهذا وارد، من ثم يحاكمه مجلس الشيوخ والذى يشترط فيه الحكم بأغلبية الثلثين، وهذا سيناريو بعيد المنال حاليا. الثانية أن تحمل الأسابيع والأشهر القادمة مفاجآت من عيار ثقيل يتغير على أثرها دعم الجمهوريين له، ولا تترك أمام ترامب إلا بديل الاستقالة تجبنا للمحاكمة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع