بقلم - محمد المنشاوي
يتغنى الكثير من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين العرب والمصريين بما يرونه عودة قوية للدور والنفوذ والقوة الروسية للمنطقة العربية، ويرون أن التحركات الروسية تقف ندا للنفوذ الأمريكى. يحلمون بعودة عصر قديم انتهى باختفاء الاتحاد السوفيتى، لم يستطيعوا بعد التخلص من أفكار القرن العشرين والنظر للغد ولمستقبل القرن الحادى والعشرين الذى لا تلعب فيه روسيا دورا كبيرا. ووفرت الأزمة السورية والحرب الأهلية المستمرة هناك وتوسع الدور الروسى وسيطرته على نظام بشار الأسد ما يرونه بصيص أمل لهم فى مواجهة السياسات الأمريكية الظالمة. إلا أن الواقع العالمى أكثر تعقيدا مما تعكسه الأزمة السورية التى لا تلعب فيها الصين دورا مهما، ويشهد الواقع العالمى المتغير صراعا حاميا ومنافسة مستعرة لا تحدث بين روسيا وأمريكا، بل بين أمريكا والصين.
روسيا دولة فقيرة، ومثلها مثل الدول الخليجية فى اعتماد اقتصادها شبه الكامل على ما تجود به أراضيها من غاز طبيعى وبترول، إضافة لمواد خام أخرى. وإلى جانب موارد أراضيها، لا تملك روسيا إلا صناعاتها العسكرية المتطورة بسبب إرث القاعدة الصناعية السوفيتية التى ورثتها وتصدر منها للعديد من أقاليم العالم الثالث. وعلى الرغم من ضخامة مصادر الطاقة والصناعات العسكرية، فإن روسيا لا تستطيع أن تتواجد ضمن قائمة الاقتصاديات الكبرى التى يتربع على قمتها الولايات المتحدة بناتج قومى إجمالى يقترب هذا العام من 20 تريليون دولار، ويليها الاقتصاد الصينى بما يقرب من 12 تريليون دولار طبقا لبيانات صندوق النقد الدولى. فى حين تلى أمريكا والصين بفاصل واسع دول باعدت بينهما وبين روسيا التى تجىء فى المركز الثانى عشر ويسبقها كل من اليابان وألمانيا وفرنسا والهند وبريطانيا وإيطاليا والبرازيل وكندا وكوريا الجنوبية. ولا يتعدى الناتج الإجمالى لروسيا رقم 1.5 تريليون دولار، وهو رقم شديد التواضع مقارنة بالصين وأمريكا.
***
تضمنت استراتيجية الأمن القومى الأمريكى التى نشرها البيت الأبيض قبل نهاية عام 2017 ثلاثة تهديدات كبيرة على الولايات المتحدة، من ضمنها طموحات روسيا والصين. واعتبرت واشنطن الدولتين منافستين رئيسيتين لها على الساحة الدولية بسبب تنامى تأثيرهما الجيوستراتيجى، إلا أن طبيعة المنافسة تختلف جذريا بين الدولتين. روسيا تلعب دورا تخريبيا معوقا لمصالح واشنطن وحلفائها سواء فى أوكرانيا أو أوروبا الغربية أو ضد وحدة حلف الناتو أو لإضعاف المؤسسات الأوروبية، وظهر هذا واضحا فى سلاح الحرب المعلوماتية التى تتدخل بها روسيا فى الانتخابات الأوروبية والأمريكية. لكن لا تخشى واشنطن أن تقدم موسكو نموذجا بديلا يحتذى به، أو تخشى أن تزاحمها موسكو على سلم معايير التقدم الحديث.
وعلى العكس من ذلك، ترى واشنطن أن الصين تقترب وتصمم على مزاحمتها على سلم الريادة العالمى تكنولوجيا واقتصاديا وربما عسكريا. نجحت الصين ذات المليار وثلاثمائة مليون نسمة والتى تعرف تنوعات عرقية وإثنية لا تحصى، أن تخلق كيانا مستقرا سياسيا، يحقق نموا اقتصاديا لم يقل عن 7% خلال العقد الأخير، أصبحت أكبر مستورد لمصادر الطاقة والمواد الخام لحاجتها الكبيرة فى القطاعات الصناعية والاستهلاكية. وطبقا لبيانات حكومية، فقد أنفقت الصين 279 مليار دولار على الأبحاث والتطوير فى العام الماضى بزيادة 14% عن العام السابق لها، ولا يسبق الصين إلا الولايات المتحدة فى هذا المجال. أما المجالات الأخرى التى تقيس تقدم الدول حاليا وفى المستقبل القريب فنحن نشهد سباقا غير مسبوق فى سرعته وطبيعته بينهما فى مجالات مثل الذكاء الاصطناعى، أو تصميم روبوتات تقوم بالكثير من المهام الإنسانية وغير الإنسانية. ولا يمر يوم واحد بدون حدوث تطور فى هذه المجالات، ولا يمر يوم دون أن تعرض صحف أمريكية أخبار عن صناعات وابتكارات الصين فى هذا المجالات الحيوية.
***
شهد شهر مايو الماضى حدثا تاريخيا شديد الأهمية إذ دشنت الصين رسميا مبادرة «الحزام والطريق» لإحياء طريق الحرير التاريخى بصورة معاصرة تنفق خلالها بكين تريليونات الدولارات فى استثمارات فى البنى التحتية فى عدة دول على طول طريق الحرير الذى يربطها بالقارة الأوروبية، إضافة لطريق آخر بحرى يصلها بأوروبا مرورا بقناة السويس. ولا يُقصد بالبنية التحتية ما يعرف عنها تقليديا من طرق وكبارى وأنفاق وشبكات كهرباء ومياه فقط، بل يمتد ليشمل طريق حرير رقميا يضمن التأسيس لطرق رقمية سريعة Super digital Highways وتهدف الصين للتأسيس لشبكة أكثر قوة من الشراكات مع الدول المختلفة، والدفع باتجاه إنشاء نظام دولى أكثر عدلا وعقلانية، لكن بالطبع هناك مساحة للمصالح الاستراتيجية للصين ولغيرها من الدول المشاركة. وشارك فى مراسم التأسيس لهذه المبادرة قادة أكثر من ستين دولة منها روسيا التى مثلها الرئيس فلاديمير بوتين.
***
ولا يرتبط الصعود الصينى فقط بما تقوم به الصين من جانبها، بل يمتد ليشمل التدهور الذى تشهده نماذج الديمقراطيات الغربية لأسباب مختلفة. لا ينكر أحد أن هناك ردة ديمقراطية ليبرالية تشهدها المجتمعات الأوروبية والأمريكية، يكفى أن نذكر حالة انتخاب دونالد ترامب وأسلوبه فى الحكم، وهذا لا يقتصر عليه، فهناك نمط حكم أوتوقراطى غير ليبرالى يمتد ليشمل قادة منتخبين بحرية فى تركيا وبولندا والمجر والهند وإسرائيل، ناهيك عن الدول العربية وروسيا. من هنا كان من السهولة أن تدافع الصحف الصينية عن قرار الحزب الشيوعى قبل أيام والمتعلق بإلغاء الحد الأقصى لعدد الولايات الرئاسية أمام الرئيس شى جين بينج من خلال اقتراح تعديل دستورى يلغى الحد الأقصى المحدد بولايتين للرئيس وهو ما يفسح المجال أمام شى للبقاء على رأس الصين مدى الحياة. عناوين الصحف جاءت على شاكلة أن القرار «أملته الحاجة لدفع نظام الحزب وقيادة الدولة لحد الكمال»، أو أن الاقتراح من شأنه «ضخ أفكار ومفاهيم جديدة حول الوجهة الذى تسير إليها البلاد» أو أن «التعديل الدستورى يستجيب لعهد جديد».
نعم تمثل الصين تحديا حضاريا كبيرا للغرب وللنموذج الأمريكى، لكن لا يقلق أغلبية الأمريكيين أن يتخطى الاقتصاد الصينى نظيره الأمريكى، أو أن تصبح أمريكا رقم اثنين خلف الصين، خاصة مع إدراكهم بتكامل الاقتصاديات الكبرى المتقدمة واعتمادها على بعضها البعض مع تلاشى احتمالات بديل الصراع المسلح بينهما، يقلق الأمريكيين أكثر ما وصل إليه نظامهم السياسى ولا يلومون فى ذلك إلا أنفسهم.
نقلا عن الشروق القاهرية