بقلم - محمد المنشاوي
لم تلعب الصين دورا هاما فى سياسات الشرق الأوسط منذ التأسيس الحديث لها منتصف القرن الماضى، وتمحور دور الصين فى تقديم دعم معنوى لحركات التحرر الوطنى العربية من الاستعمار الغربى بعد الحرب العالمية الثانية، وتأييدها العام للحقوق الفلسطينية والعربية فى صراع الشرق الأوسط. وفى المقابل دعمت الدول العربية بصفة عامة جهود الصين فى الحصول على مقعدها بالأمم المتحدة ومن ثم مجلس الأمن وحق الفيتو خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضى. وعلى الرغم من تراث الاستعمار الغربى للدول العربية، وعلى الرغم من دور دول مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فى إنشاء ورعاية إسرائيل، اختارت الدول العربية التقرب من الغرب ونموذجه الاقتصادى والثقافى، فإن هذا الواقع قد لا يصمد أمام ما تشهده الصين من تطورات متسارعة والتى ستصل تبعاتها للدول العربية. من ناحية أخرى لم يعد بإمكان الصين تجاهل هذه المنطقة الغنية بثرواتها الطبيعية خاصة مصادر الطاقة اللازمة لاستمرار تقدمها من بترول وغاز، ولا تستطيع كذلك تجاهل السوق الاستهلاكية العربية الواعدة والمتزايدة باستمرار، من هنا لن يستطيع العرب تجاهل الصين طوعا أو كرها.
تاريخيا ركزت الصين بالأساس على التعامل مع النظم الحاكمة بصورة رسمية، ولم تستثمر فى النخب الثقافية أو الأكاديمية أو الإعلامية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرهم من أعضاء المجتمع المدنى، ولا يثق النموذج الصينى فى المنظمات غير الحكومية بصفة عامة. ولأسباب داخلية بالأساس لم ترحب الصين بثورات الربيع العربى التى رفعت لواء الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. والصين بصفة عامة لا تكترث بالسياسات الداخلية للدول إلا فى إطار ما قد يؤثر على علاقاتها الاقتصادية والتجارية بها، كذلك لا ترغب الصين فى تصدير نموذج سياسى للحكم لتفرضه على بقية دول العالم. وفى الوقت الذى عبرت دوائر غربية مختلفة عن ترحيبها بأحداث الربيع العربى، تحفظت الصين واعتبرت ما يجرى بمثابة مشكلة أو أزمة تتعرض لها الدول العربية، من هنا لم تعتبر الصين سقوط نظام الرئيس حسنى مبارك أو نظام معمر القذافى أو نظام على عبدالله صالح أخبارا جيدة.
***
لم تكن الصين من قبل قوة عالمية، بل اكتفت دوما بدورها الإقليمى فى شرق وجنوب آسيا. ولم تسع الصين لفرض نفوذها، إلا أنه ومع تغير الواقع العالمى الذى يشهد صعودا صينيا اقتصاديا ليس له مثيل من قبل، لن تستطيع الصين البقاء على صبرها الاستراتيجى بالابتعاد عن التدخل فى الشئون الدولية. مصالح الصين الحقيقية فى المنطقة هى مصالح حديثة وليست مصالح قديمة كما هو الحال مع الدول الغربية، يساعدها فى ذلك عدم وجود تاريخ صراعى مع دول وشعوب المنطقة مثل الحال مع القوى الغربية. وعلى الرغم من التعاطف الشعبى الذى جمع العرب والصينيين حول العديد من القضايا العالمية، لم تتواصل الصين مع الشعوب العربية بصورة مباشرة من قبل. لكن وخلال العقدين الأخيرين، تغيرت رؤية الصين لمصالحها العربية، وبجانب زيادة التجارة بين الجانبين، أنشأت الصين وسائل للاستفادة من قوتها الناعمة وأطلقت خدمات صحفية وإعلامية باللغة العربية موجهة للمواطن العربى، وللمساعدة فى التقرب من النخب السياسية الحاكمة سواء النخب العربية الملكية أو الجمهورية التى تطلعت دوما للنماذج الغربية الثقافية والتعليمية والاجتماعية.
***
تظهر تقارير مختلفة تطور حجم التبادل التجارى بين الصين والعالم العربى بصورة كبيرة جدا لم تشهدها علاقات العرب بأى من الشركاء التجاريين الآخرين. وأصبحت الصين ثانى أكبر شريك تجارى للدول العربية بعد مجموعة دول الاتحاد الأوروبى (27 دولة). وأصبحت الدول العربية أكبر مصدر نفط للصين وثامن أكبر شريك تجارى لها بحجم صادرات بلغ عام 2016 (71 مليار دولار)، مقابل واردات صينية قيمتها أكثر من 101 مليار دولار. كذلك أظهر تقرير صدر مؤخرا عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات تخطى الصين الولايات المتحدة لتصبح أكبر مستثمر فى الدول العربية نسبة 32% من إجمالى الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو ما قيمته 29.5 مليار دولار، فى حين لم تتعد الاستثمارات الأمريكية 7 مليارات دولار أو ما نسبته 8% فقط. وتعكس خطوات الصين الاقتصادية بالاستثمار فى مناطق حرة صناعية أو فى إنشاء شبكات متنوعة من مشروعات البنية التحتية طموحا كبيرا فى علاقاتها المستقبلية بالدول العربية، وعلى سبيل المثال أصبح هناك وجود بشرى صينى كبير فى العالم العربى، إذ يوجد ما يزيد على ربع مليون مواطن صينى فى إمارة دبى الإماراتية وحدها.
***
مع بداية عام 2016، أدركت الصين أن عليها وضع خطوط عريضة لسياستها تجاه المنطقة العربية بما يضمن وضوح رؤى التحرك المستقبلى فى علاقاتها مع العرب شعوبا وحكومات. وعكس إصدار وثيقة «سياسة الصين تجاه الدول العربية» حرص القيادة الصينية على رسم خطط مستقبلية للتعاون الصينى العربى القائم بالإساس على مبدأ المنفعة المتبادلة بعيدا عن أى تدخلات فى الشئون الداخلية أو السياسية. وتضمنت الوثيقة أسسا جديدة للعلاقات بين الجانبين فى جميع الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية والمالية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية والفكرية. وفى الوقت الذى لا يملك العرب تصورا موحدا أو حتى تصورات مختلفة لعلاقتهم المستقبلية مع الصين، ترسخ الصين من وجودها الجيوستراتيجى قرب الدول العربية. قبل أقل من عام افتتحت الصين رسميا أول قاعدة عسكرية خارج حدودها فى دولة جيبوتى، ذات الموقع الاستراتيجى، حيث تشرف على المدخل الجنوبى للبحر الأحمر المؤدى إلى قناة السويس.
من المبكر أن نقول إن الصين ستزيح النفوذ الغربى (أوروبي ــ أمريكي) من الدول العربية لتحل مكانهما فى أى وقت قريب. وعلى الرغم من وجود أسس جديدة للقوة الناعمة الصينية، فإن تأثيرها يصبح محدودا للغاية لأسباب مختلفة من أهمها عدم ارتياح العرب شعوبا وحكومات للتعامل مع الصين بقدر ارتياحهم للتعامل مع الأوربيين والأمريكيين. ربما يرجع ذلك لعوامل تتعلق باللغة وحواجزها، أو ربما يرجع لعدم احتكاك العرب أو اقترابهم من اللغة والثقافة ونمط الحياة الصينى. لا يعرف العرب بعد عن المؤسسات التعليمية الرائدة فى الصين، على عكس الحال مع الحالة الغربية، ولا يعرفون كذلك أسماء مشاهير الفن والثقافة الصينية فى حين يعرفون نظراءهم الغربيين. من هنا قد يستمر الميل العربى للغرب فى المستقبل القريب، إلا أنه من سوء التقدير توقع استمرار هذا الاتجاه على المدى الطويل. نعم تتحدث النخب العربية الإنجليزية وربما الفرنسية بطلاقة، لكن مع ذلك أتطلع قريبا لاستثمار جاد فى مدارس اللغة والثقافة الصينية.
نقلًا عن الشروق القاهرية