مثَّل إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حالة طوارئ وطنية لحماية شبكات الاتصالات الفيدرالية وما تبعها بصورة غير مباشرة من منع الشركات الأمريكية من استخدام معدات شركات هواوى الصينية كونها تمثل خطرا أمنيا فى لحظة تاريخية فاصلة. ولا يرتبط الأمر فقط بطبيعة الرئيس ترامب، فقد سبقه الكونجرس الذى حذرت إحدى لجانه عام 2012 من التعامل الحكومى مع الشركة ووصفت العمل معها بأنه «خطر أمنى». وكانت هيئة الاتصالات الفيدرالية كذلك قد منعت شركة صينية أخرى تسمى «تشينا موبيل يو إس إيه» من توفير خدمة الاتصالات الدولية فى السوق الأمريكية لأسباب تتعلق بالأمن القومى.
وتعتقد واشنطن أن المعدات المنتجة من قِبل شركة هواوى ــ أكبر مورد لمعدات الاتصالات فى العالم وثانى أكبر شركة للهواتف الذكية فى العالم بعد سامسونج ــ يمكن أن تستخدمها الحكومة الصينية للتجسس، لكن هواوى نفت هذه الادعاءات بشكل متكرر. وقد دعم هذه الشكوك كون الشركة أسست عام 1987 على يد رين زينجفى المهندس السابق بالجيش الصينى والعضو السابق بالحزب الشيوعى الصينى.
وكذلك تطالب واشنطن حلفاءها الغربيين بعدم استخدام تكنولوجيا الشركة الصينية فيما يتعلق بتكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات المعروف بـ5G. وقد حذرت واشنطن عواصم أوروبية من أن التعاون مع هواوى سيقلل حجم التعاون الاستخباراتى مع واشنطن، هذا فى وقت تعتمد فيه الكثير من الدول الأوروبية على المعلومات التى تجمعها الاستخبارات الأمريكية.
وتعكس تلك التطورات بداية معارك حقيقية بين اللاعبين الكبار فى عالم اليوم، وهى معارك لا تسيل فيها الدماء، وذلك على عكس المعارك التى تقع على أراضى دول العالم الثالث بصورة أو بأخرى.
معارك أكبر دولتين فى عالم اليوم ــ وهما الولايات المتحدة والصين ــ لن تدار عن طريق وزارات الدفاع ولا هيئات الأركان ولا القيادات العسكرية التقليدية، فذلك ينتمى لحروب القرن الماضى، أما حروب القرن الحادى والعشرين وصراعات المستقبل فيديرها رؤساء شركات ومطورو البرامج والمديرون التنفيذيون وستتركز على إدارة المعلومات وبراءات الاختراعات والسيطرة على الساحة التكنولوجية العالمية فى مستوياتها المختلفة. حروب المستقبل التى بدأت بين الغريمين الكبيرين تركز على جذب العقول والأفكار والابتكارات، والنفاذ لتوفير خدمات استراتيجية فى بقية دول العالم.
***
لست خبيرا فى الشأن التكنولوجى، لكنى أدرك جيدا الحسابات الاستراتيجية لصانع القرار فى واشنطن وسط الغموض الذى يحيط بشركة هواوى، وبما يوجه لها من اتهامات بالتجسس وكذلك مدى استقلالها عن الدولة الصينية وحزبها الشيوعى وأجهزتها المخابراتية؟
ما تشهده الدوائر الأمريكية والعواصم الغربية من جدال ومبارزات فكرية حول حدود ترك (الآخر الصينى) يتحكم أو يشرف على توفير شبكة الجيل الخامس للهواتف المحمولة لدول غربية كبيرة مثل ألمانيا وبريطانيا وأستراليا وآخرين ــ يثير الكثير من السجالات الفكرية التى لم يتصور أحد قبل سنوات قليلة إمكانية طرحها للنقاش فى عواصم غربية وتتعلق بتقييد عمل شركات أجنبية أو فرض حظر على شركاء تجاريين، وشركات منافسة.
من الحقائق الواضحة فى عالم اليوم أن الصين وهى القوة الصاعدة الكبرى فى عالم اليوم تحاول اللحاق بالولايات المتحدة فى جميع الأصعدة خاصة التكنولوجى منها. سيبلغ حجم الاقتصاد الأمريكى فى نهاية هذا العام ما قيمته 21.3 تريليون دولار مقابل اقتصاد صينى قيمته 14.2 تريليون دولار. ومن حُسن حظ البشرية أن واشنطن وبكين قد أحسنتا إدارة عملية التحول والسباق الجارية بينهما دون أن تطلق رصاصة واحدة فى أى اتجاه. وقد علمنا التاريخ ضرورة وقوع حروب كبرى عندما تحاول قوى صاعدة بحماس وتصميم كبيرين مزاحمة قوة متواجدة مسيطرة على المشهد العالمى. وقد كلفت هذه العملية فى التاريخ ملايين القتلى عندما أفل نجم القوة البريطانية أو الفرنسية ومن قبلهما العثمانية.
***
تضمنت استراتیجیة الأمن القومى فى عهد الرئيس ترامب تهديدات ثلاثة يأتى على رأسها «الطموح الصينى»، وترى واشنطن أن الصین تقترب وتصمم على مزاحمتها على سلم الريادة العالمى، خاصة فيما يتعلق بمجالات السيطرة المستقبلية. ونشهد نحن اليوم سباقا غیر مسبوق فى سرعته وطبیعته بینهما فى مجالات مثل الذكاء الاصطناعى، أو تصمیم روبوتات تقوم بالكثیر من المهام الإنسانیة وغیر الإنسانیة. ولا يمر يوم واحد بدون حدوث تطور فى ھذه المجالات، ولا يمر يوم دون أن تعرض صحف أمريكیة أخبارا عن صناعات وابتكارات الصین فى ھذه المجالات الحیوية. لذا ليس بالمفاجأة أن توقف شركة جوجل أعمالها التى تتطلب أى تعاون مع شركة هواوى، بما فى ذلك احتمال حظر تطبيقياتها المهمة مثل محرك أندرويد قريبا، وهو ما قد يؤثر على الملايين من مستخدمى هواتف الشركة الصينية. وتقول شركة جوجل إنه يوجد قرابة 2.5 مليار مستخدم لأجهزة أندرويد حول العالم. من ناحية أخرى لا يمكن فهم ما يقوم به ترامب من كسر قواعد التجارة الدولية فى التعامل مع الصين وفرض تعريفات جمركية مرتفعة إلا فى إطارها الأوسع الذى يجمعهما.
***
ويرى بعض الخبراء أن إدارة ترامب تعد السباق حول شبكة الجيل الخامس جزءا من سباق تسليح جديد ومتطور مع الصين، وجاء الموقف الأمريكى بعدما طرحت الصين مبادرتها المعروفة باسم مبادرة «الحزام والطريق» التى تركز فيها على إنشاء شبكة واسعة من مشروعات البنية التحتية التقليدية من طرق وموانئ وممرات، إلا أن الصين أكثر اهتماما بإنفاق تريلیونات الدولارات فى استثمارات فى البنى التحتیة التكنولوجية لطرق رقمیة سريعة Super Highways digital حيث إن هذا هو الاستثمار الاستراتيجى الذى لا ينتظر عوائد سريعة بل يضمن بها نفوذا لا مثيل له فى صراعات المستقبل.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع