كتب توماس جيفرسون لصديقه إدوارد كارينجتون عام 1787 قائلا: «إن كان القرار يرجع لى فى الاختيار بين حكومة بلا صحافة، أو فى صحافة بلا حكومة، فلن أتردد وسأختار بلا تردد صحافة بلا حكومة».
وتجدد تطورات الأيام الأخيرة من معارك بين فئة واسعة من الإعلام الأمريكى وبين الرئيس دونالد ترامب النقاش حول مستقبل حرية النشر وقواعد العمل الصحفى فى ظل تسارع التطورات التكنولوجية وسط علاقة متوترة بين السلطة التنفيذية والصحافة فى أكبر وأقوى ديمقراطيات العالم.
وخلال الأسبوع الأول من هذا الشهر تنافست صحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز فى مواجهة الرئيس الأمريكى ترامب. الأولى عن طريق عرض موسع لكتاب الخوف FEAR الذى انتهى منه ابن الصحيفة البار بوب وودورد، الذى ربما يعد من أهم الصحفيين الأحياء فى الوقت الحاضر. والثانية عن طريق نشرها مقال رأى بدون توقيع لأحد كبار المسئولين فى إدارة ترامب يقول إنه وغيره يشكلون جبهة مقاومة داخلية ضد تهور وجنون وغباء ترامب وسياساته من أجل حماية المصالح الأمريكية.
وقبل شهر، بادرت صحيفة بوسطن جلوب بتنظيم حملة ضد نهج ترامب المعادى للإعلام تحت عنوان «لسنا أعداء أحد» وانضمت إليها أكثر من 200 صحيفة، وخرجت الافتتاحيات فى تلك الصحف لتقول: «لدينا اليوم فى الولايات المتحدة رئيس خلق شعارا يقول إن وسائل الإعلام التى لا تدعم بشكل صارخ سياسات الإدارة الأمريكية الحالية هى عدوة الشعب». ومن جانبها تقوم صحيفة واشنطن بوست، المملوكة لمالك موقع أمازن جيف بيزوس الذى يعد كذلك أغنى شخص فى العالم، وتجمعه بترامب عداوات كبيرة، بتوثيق ما تعتبره أكاذيب ترامب، وتم تجميع 4229 أكذوبة صدرت على لسان ترامب أو نشرها من خلال تغريداته على موقع تويتر.
***
ترامب ليس رئيسا تقليديا، بل هو رجل أعمال انخرط لسنوات فى برامج تلفزيون الواقع، وحقق نجاحات كبيرة. واستغل ترامب، منذ بدء سباق الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهورى لاختيار مرشح رئاسى منتصف 2015، الإعلام بصورة فعالة. كما أنه استغل الفجوة الواسعة بين قاعدة الناخبين اليمينية المحافظة من جانب، وبين الإعلام الليبرالى من جانب آخر، والتى تأتى فى مقدمته محطات «سى إن إن» و«إن بى سى» و«سى بى إس»، وصحف مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست».
وبلا شك نجح ترامب فى استغلال حالة الاستقطاب السياسى غير المسبوقة التى تشهدها الولايات المتحدة لشن هجوم لا يتوقف على وسائل الإعلام التى لا تشاهدها قاعدته الانتخابية الصلبة التى لها وسائل الإعلام الخاصة بها من صحف وتليفزيونات ومواقع يمينية محافظة.
سقط الإعلام، عمدا أو جهلا، فى فخ ترامب، نعم زادت الاشتراكات والإعلانات فى السى إن إن والنيويورك تايمز وواشنطن بوست وغيرهم، إلا أن مصداقية وحيادية الإعلام تتلاشى مع مرور الوقت والتعود على نهج مهاجمة شخص وسلوكيات ترامب والابتعاد عن تقييم سياساته بموضوعية.
ومن حسن حظ ترامب أن القواعد الشعبية المؤيدة له وسط الجمهوريين والمحافظين والمتدينين يكرهون وسائل الإعلام الرئيسية التقليدية. وتشاهد هذه الفئة من الناخبين محطات تلفزيونية مثل «فوكس» الإخبارية، ومحطة نيوزماكس ومحطة وان أمريكا، إضافة لتليفزيونات محلية ومحطات دينية كثيرة. ويستمعون لبرامج راش ليمبو أو آيد شولتز، اللذين تبث برامجهما المحافظة فى أكثر من 700 محطة راديو محلية. كما أن هذه الفئة لا تقرأ الصحف عادة.
***
مع خروج كتاب وودورد، غضب وانفعل ترامب وهاجم الكتاب وكاتبه واتهمه بعدم المصداقية وأن هدفه الوحيد هو الربح المادى من بيع المزيد من نسخ الكتاب. كذلك هاجم ترامب نيويورك تايمز بضراوة وطالبها بضرورة الكشف عن هوية الكاتب، إنها تعرض بنشرها مثل هذه المقالات «الأمن القومى الأمريكى للخطر».
ومنذ البداية لعب الإعلام دورا طاغيا فى التأثير على شخصية وهوية ومواقف دونالد ترامب. وتخيل الكثيرون أن خلافات ترامب مع الإعلام ستنتهى بوصوله للبيت الأبيض، إلا أنه يبدو أنها كانت البداية فقط، إذ غرد أهم محاميه والعمدة الأسبق لمدينة نيويورك، رودى جوليانى، أن «الإعلام فوجئ بانتصار ترامب على عكس كل توقعاتهم، من هنا يحاول الإعلام بشتى الطرق الإيقاع بترامب وإفشال رئاسته».
إلا أن ما يثير ترامب بالأساس هو الاستمرار فى التغطية الواسعة لكل جوانب وتفاصيل التحقيقات الجارية حول التدخل الروسى فى الانتخابات التى أوصلت ترامب للبيت الأبيض. ولم يعترف ترامب بعد بصورة لا تحمل أى معان أخرى بحدوث تدخل روسى فى الانتخابات بهدف مساعدته على الفوز بها. وفى الوقت الذى يحبذ فيه ترامب أن يركز الإعلام على ما يعتبره إنجازات اقتصادية وسياسية، وأن يبتعد عن انتقاد سياساته، وأن يقلل من تغطيته الدقيقة لتفاصيل التحقيقات فى التدخل الروسى، لا يتوقف الإعلام عن الخوض فى أدق التفاصيل المتعلقة بعملية التحقيقات بإدارة ترامب وسجلها. ولا يتوقف ترامب عن وصف وسائل الإعلام بأنها «عدو الشعب الأمريكى»، وأنها «غير أمينة»، وأنها تنشر «أخبار كاذبة»، وأنها «تضر بالديمقراطية»، وأنها تنشر «نظريات مؤامرة وتتغاضى عن الكراهية».
***
وأمام المعادلة الصفرية الجارية بين الطرفين لم يبق أمام الصحفيين إلا خيار واحد وهو الاستمرار فى تغطية التطورات المتلاحقة بكل مهنية وحرفية وحيادية، ولا يملك ترامب إلا الاستمرار فى التعبير عن غضبه. لا خطر على حرية الإعلام الأمريكى، فتنظيمه يعود للتعديل الأول للدستور الذى حظر على الكونجرس تمرير أية قوانين من شأنها الانتقاص من حرية التعبير أو حرية الصحافة، وتم اعتماد التعديل الأول للدستور كواحد من عشر تعديلات تشكل وثيقة الحقوق فى 15 ديسمبر 1791. من ناحية أخرى من الصعوبة تصور تغيير فى سلوكيات الرئيس دونالد ترامب. من هنا فنحن أمام حرب تتسع يوميا بلا منتصر وبدون خاسرين باستثناء فكرة الديمقراطية ذاتها داخل وخارج أمريكا.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع