بقلم - محمد المنشاوي
ارتأت أجهزة الاستخبارات الأمريكية حماية المرشح دونالد ترامب خلال ربيع عام 2016 خشية أن يقع ترامب عرضة لنفوذ الكرملين من خلال مستشاريه أو أعضاء حملته الانتخابية. وتهدف جهود مكتب التحقيقات الفيدرالى «إف بى آى» فى حالة ترامب إلى مواجهة محاولات استخبارات الدول المعادية التقرب من ترامب ودائرته. وتعتمد «إف بى آى» فى مواجهة أنشطة التجسس على طريقة سلبية وهى إخبار الشخص الذى قد تهتم روسيا فى هذه الحالة بتجنيده بأن عليه الحذر لهذا السبب، وهذا ما حدث بالفعل مع المرشح ترامب وحملته، وهو ما تجاهله ترامب وحملته.
إلا أن طلب ترامب ــ خلال مؤتمر صحفى عقده وسط الحملة الانتخابية يوم 27 يوليو 2016 ــ من روسيا أن تخترق البريد الإلكترونى لمنافسته هيلارى كلينتون كان بمثابة ناقوس خطر للأجهزة الأمريكية التى لم تستوعب طبيعة هذا الطلب.
وخرج رودلف جوليانى، محامى الرئيس ترامب، بتصريحات الأسبوع الماضى أضافت المزيد من الإثارة على تحقيقات روبرت مولر المتعلقة بحجم وطبيعة التدخل الروسى فى جولة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ولم ينف جوليانى وجود تواطؤ بين روسيا وبعض مستشارى ترامب، إلا أنه نفى أن يكون ترامب شخصيا متواطئا. وتشير تصريحات جوليانى إلى الإقناع بأن لدى مولر ما يدين الدائرة المقربة من ترامب، وربما ترامب نفسه.
من ناحية أخرى، أعادت بعض الصحف الأمريكية التذكير بزيارة قام بها ترامب لموسكو فى نوفمبر 2013؛ حيث أقيمت مسابقة ملكة جمال العالم التى كان ينظمها حينذاك. ويعتقد على نطاق واسع فى واشنطن أنه وخلال هذه الزيارة نجحت الاستخبارات الروسية فى الإيقاع بترامب، رجل الأعمال الشهير ونجم برامج تليفزيون الواقع فى مدنية نيويورك باستخدام سلاح النساء والجنس، وهو ما قد يكون استخدم ضده من أجل الضغط عليه لخدمة مصالح موسكو لاحقا.
***
خلال كلمته أمام مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية عام 2007، وهى الخطبة التى يراها البعض مفتاحا لفهم التحركات الروسية فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة وصولا للتدخل فى الانتخابات الأمريكية، تحدث الرئيس الروسى عن رؤيته لعالم ما بعد الحرب الباردة، وذكر بوتين أن بروز قطب واحد «أمريكى» يسبب غياب العدالة فى النظام الدولى خاصة مع سعى واشنطن للسيطرة على العالم وتجاهل القوى الأخرى الكبيرة، وكان بوتين شاهدا عن قرب على انهيار الاتحاد السوفيتى؛ حيث كان يعمل ضابطا فى جهاز الاستخبارات السوفيتية المعروف باسم «كى جى بى»، وشاهد بوتين خلال خدمته بقنصلية بلاده فى مدينة دريسدن بألمانيا الشرقية عام 1989 انهيار حائط برلين، وبعدها بأشهر انهار الاتحاد السوفيتى نفسه وتفكك لعدد من الدول وهو ما كان تجسيدا لانتصار الغرب ومنظومته الفكرية والسياسية والاقتصادية وهزيمة النموذج الروسى، «ومنذ تلك الخبرة الأليمة، أصبح تحديا للرئيس الروسى أن يعرقل ويفسد التحالف الغربى من خلال إظهار شروخات الديمقراطية الغربية والعمل على تعميقها، وإضعاف الإمكانيات الأمريكية وإبراز وتعميق الخلافات بين واشنطن وبقية دول حلف الناتو» طبقا لما ذكرته ليزا بيدج المسئولة القانونية السابقة بمكتب التحقيقات الفيدرالى فى شهادتها أمام لجنة تحقيق مجلس النواب المتعلقة بالتدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية. وهكذا تمثل الهدف الأسمى لروسيا ورئيسها بوتين فى إضعاف «مكانة الولايات المتحدة وإضعاف تبنيها للقيم الأخلاقية المتعلقة بالديمقراطية والحريات حول العالم» كما أشارت بيدج.
وجاء التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية المحتمل وسط توتر كبير فى علاقات الدولتين على خلفية قضيتى أوكرانيا وسوريا، ليقوم الرئيس السابق باراك أوباما بعد فوز ترامب بالانتخابات وقبل تنصيبه رئيسا بفرض عقوبات واسعة على روسيا قبل مغادرته البيت الأبيض شملت طرد 35 دبلوماسيا روسيا، وغلق بعض البعثات الدبلوماسية الروسية فى الولايات المتحدة، وتخفيض مستوى العلاقات دون قطعها. ولم يتخذ بوتين أى قرارات انتقامية.
***
يرى بعض المحللين أنه من الأفضل أن يعلن المحقق روبرت مولر أن ترامب عميلا لروسيا، إلا وكيف يمكن تفسير ما يقوم به من «نمط القرارات والتغريدات والتصريحات المؤيدة لروسيا ولبوتين مقابل تصريحات ومواقف وتغريدات مهاجمة ومشككة فى مهنية وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالى» إضافة لكذبه والتمويه على كل لقاء أو حوار جمعه بمسئولين روس بطريقة منتظمة. ويرى البعض أن الحقيقة الأسوأ من ألا يكون ترامب عميلا لروسيا، هو أن الشعب الأمريكى انتخب رئيسا وقائدا أعلى للقوات المسلحة الأمريكية غير مدرك لطبيعة العلاقات بين الدول، ولا يهتم إلا بشخصه ومصالحه المالية، ولا يحترم مؤسسات الدولة الأقوى فى عالم اليوم. وليس سرا إعجاب ترامب بالعديد من حكام العالم المستبدين، فى الوقت الذى يحتقر فيه القيم والمبادئ الأمريكية الرفيعة المتعلقة بالحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان. ليس هذا فقط بل هو رئيس ــ كما يقول خصومه ــ يحيط نفسه بمجموعة من المضللين والمجرمين والعملاء لدول أجنبية. رئيس لا يأبه بحلفاء أمريكا التاريخيين، ويهدد نظام تحالف حفظ الأمن العالمى لمدة 75 عاما.
وعلى الرغم من كل ذلك تم انتخابه من الشعب الأمريكى، وما زال لديه قاعدة تأييد شعبية واسعة تدين له بالولاء، وما زال يتمتع بسطوة كبيرة على الحزب الجمهورى، وربما يعاد انتخابه إذا دخل الانتخابات القادمة.
***
ويتركنا كل ما سبق مع بديلين محتملين كما يقول الخبراء: الأول، أن يكون الروس يمتلكون ما يستخدم لابتزاز الرئيس ترامب لذا فهو يعمل لصالحهم وبتعليمات من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بصورة مباشرة لخدمة المصالح والأهداف الروسية، خاصة بعدما ساعدته موسكو وأجهزة استخباراتها فى الوصول للبيت الأبيض.
الثانى، أن ترامب ليس عميلا لروسيا بل هو أكثر شخص غبى فى التاريخ إذ إنه يخدم مصالح أعداء بلاده دون سبب وبلا مقابل، وبين البديلين تبقى خسارة أمريكا بلا حدود، وعلى الرغم من أن طبيعة دولة المؤسسات فى أمريكا تحرم روسيا من تحقيق مكاسب كبيرة مباشرة مما يجرى. لكن يبقى أن حتى محاولة تجنيد وإيصال شخص لمنصب رئيس الولايات المتحدة سيسجل كأكبر عملية استخباراتية ناجحة فى التاريخ البشرى.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع