بقلم - أسامة الغزولي
موقف بولندا من حقيقة المحرقة اليهودية ومن تورطوا فيها، كما عبر عنه رئيس الحكومة البولندى وهو فى ميونخ قبل أيام، هو نقطة تحول فى الثقافة السياسية لعالمنا المعاصر. وهذا الموقف يعززه ما نشر مؤخرا، فى الصحافة الإسرائيلية، عن تحولات فى رؤية الشباب اليهودى فى سان فرانسيسكو للدولة العبرية والفلسطينيين. وليس فى الموقفين عداء لإسرائيل- ولا لليهود طبعا- كما يزعم العنصريون الصهاينة، وكما يمكن أن يتخيل العنصريون بيننا نحن العرب.
سوف أعلق على الموقفين فى ميونخ وفى سان فرانسيسكو. لكنى أريد أن أربط هذه التحولات الثقافية بتغيرات فى توازنات الرعب، تتجسد إحدى صورها فى تنسيق يحكمه مركز الاتصال السرى المباشر بين القيادتين الروسية والإسرائيلية، نشأ بمبادرة من بنيامين نتنياهو، بعد أن أصبح لروسيا حضور عسكرى فاعل على الساحة السورية فى 2015. ووفقا لما ذكره رونين برجمن الذى يكتب فى يديعوت أحرونوت الإسرائيلية وفى نيويورك تايمز الأمريكية فقد تأهب جنرالات إسرائيل لتحويل الهجمات الانتقامية، بعد إسقاط سوريين طائرة الفانتوم، إلى حرب شاملة. ويقول برجمن إن الإيرانيين والسوريين وحزب الله «أدركوا أن شيئا ما يجرى الإعداد له، وأوضحوا أنهم لن يتركوا ذلك يمر من دون رد». وانتبه ياعزيزى القارئ إلى أن كلام برجمن يعنى أن الطرفين يرى كل منهما الآخر ويتواصل معه، على نحو ما.
وكادت الأمور تبلغ نقطة اللاعودة عندما اقتربت الهجمات الإسرائيلية الانتقامية من مواقع الروس فى سوريا. وهنا تلقى بنيامين نتنياهو مكالمة غاضبة من فلاديمير بوتين أوقفت الانزلاق نحو حرب إقليمية خطيرة. ولم يكتف بوتين بإظهار غضبه لبنيامين نتانياهو فى اتصال سرى. ووفقا لما ينقله برجمن عن مصدر عسكرى إسرائيلى فإن «الروس الذين لم يكتفوا بالانحياز للجانب الآخر» كان بوسعهم «أن يحولوا دون إطلاق الطائرة الإيرانية بدون طيار، لكنهم لم يفعلوا شيئا. وقد بلغتنا الرسالة الروسية، شديدة الصخب والوضوح». وهذه الرؤية الواضحة لما فعله وما لم يفعله الآخرون، تذكرنا بأننا جميعا قريبون من بعضنا البعض، ومكشوفون لبعضنا البعض.
والأهم أن هذا يذكرنا بوجود كابح إقليمى للجموح فى منطقتنا، يتمثل فى دور روسى أتصور أنه يلقى- رغم كل شىء- مساندة أمريكية. لكن هل هذا كاف؟ لا أظن ذلك. فلابد أن تتعالى أصواتنا جميعا، مطالبة الجميع بالتعقل. وهنا يتعين أن نعود لما قاله رئيس الوزراء البولندى ماتيوش مورافسكى من أن الجريمة التى راحت ضحيتها أعداد هائلة من اليهود فى معسكرات النازى ساهم فيها يهود كما ساwهم فيها بولنديون. هذا الذى صرح به رئيس وزراء بولندا فى مؤتمر الأمن الذى شهدته ميونخ مؤخرا ليس إنكارا للمحرقة اليهودية بل خطوة نحو إنهاء احتكار حكومة إسرائيل لمأساة الضحايا اليهود وتوظيفها سياسيا. وبالمقابل، وعلى مسافة آلاف الأميال، تشير دراسة ديموغرافية أجريت فى شمال سان فرانسيسكو إلى أن ثلثى الشباب اليهودى، المنتمين لأغنى الشرائح السكانية وأكثرها«تقدمية» فى تلك المنطقة، لا يشعرون بأى ارتباط مع الدولة العبرية ولا يميلون إلى الإسرائيليين بأكثر مما يميلون للفلسطينيين. وخطورة هذه الظاهرة أن سان فرانسيسكو هى الطليعة الثقافية التى تتبنى أمريكا كلها توجهاتها، ولو بعد حين.
كل هذا يعنى أن التحولات البطيئة فى موازين القوى، بين إسرائيل والإيرانيين والسوريين وحزب الله، تواكبها تحولات ثقافية قد تجعل إسرائيل، فى المستقبل القريب، غير قادرة على استثمار وتوظيف مظلومية أساءت استخدامها، بهدف التغطية على سياساتها الكولونيالية. لكن مواصلة التقدم فى هذا الاتجاه تقتضى دفع الفلسطينيين، أيضا، للانعتاق من أسر مأساة لا يمكن إنكارها ولا يمكن أن تستخدم كمبرر للاواقعية السياسية. عندئذ فقط يمكن لمنطقتنا أن تحتكم للعقل والواقع والأخلاق وهى تحاول معالجة أخطر ما تركته لنا مائة عام من الفوضى.
نقلا عن المصري اليوم القاهريه