بقلم - أسامة الغزولي
أثارت زيارة الأمير البريطاني وليام لإسرائيل، ضمن جولة في المنطقة استمرت خمسة أيام، أعقبت زيارة قام بها كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنر للمنطقة وللدولة العبرية، ردود فعل إسرائيلية لم تركز على أن هذه أول زيارة ملكية رسمية من بريطانيا لإسرائيل منذ قيامها، ولا على أن الأمير أعرب عن احترامه لذكرى ضحايا النازية من اليهود في متحف ياد فاشيم، ولا على أنه تجنب الاعتذار عن وعد بلفور، ولا على أنه – وهذه هي الفقرة الأشد إيحاء في زيارة الأمير ذات الإيحاءات البالغة القوة - نزل في فندق الملك داود الذي فجّره إرهابيون صهاينة بمن كانوا فيه من ضباط وإداريين بريطانيين في العام 1946. وبدلاً من ذلك كله، ركّزت ردود الفعل الإسرائيلية على أن وليام زار القدس الشرقية باعتبارها «منطقة فلسطينية محتلة». وإذا كان وزير شؤون القدس الإسرائيلي زئيف إلكين - بين آخرين - استنكر ذلك زاعماً أن «القدس عاصمة إسرائيل الموحدة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام»، فمن الواضح أن هذا السياسي، المنشغل بالماضي بأكثر مما هو منشغل بالحاضر أو بالمستقبل، لا يهتم كثيراً بأن إسرائيل، التي يحرص على حاضرها ومستقبلها النظام الدولي، لم يكن لها أي وجود خارج السرديات الميثولوجية قبل العام 1948، وأن في مقدم أعضاء المجتمع الدولي الحريصين عليها بريطانيا التي اعترفت بالدولة العبرية في العام 1950 اعترافاً يستند إلى أسس قانونية de jure، لتسبق بذلك، بربع قرن، الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ظل اعترافها بإسرائيل، حتى منتصف السبعينات، مجرد اعتراف بأمر واقع de facto.
وتنسجم ماضوية إلكين مع ماضوية مؤرخ الهولوكوست (ماضوي بحكم التعريف؟) يهودا باور وهو يلوم رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، لأن الأخير قدم مصالح إسرائيل المعاصرة على خلافات بينها وبين بولندا على توصيف الجرائم التي تورط فيها بولنديون أعانوا النازي على مواطنيهم اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. ويتخذ الموقف الماضوي ذاته المعلق في «هاآريتس» الإسرائيلية تشيمي شاليف، وهو يستنكر العلاقة الودية بين نتانياهو وبين رئيس حكومة هنغاريا فيكتور أوربان، لأن الأخير امتدح حاكماً هنغارياً متهماً بالتواطؤ مع النازي (وليس بسبب الخصومة بين أوربان التسلطي وبين رجل المال اليهودي الليبرالي جورج سوروس!).
لكن أهم منتقدي زيارة الأمير وليام وزيارة أخرى سبقتها بساعات، وأكثر أهمية بكثير، قام بها جاريد كوشنر لإسرائيل والمنطقة، قد يكون آنشيل بفيفر في «هاآريتس» الذي لم ير في الأمير البريطاني سوى أنه «قائد حوّامة عاطل من العمل، في السادسة والثلاثين، ولا يسعه إلا أن يترقب وفاة جدته وأبيه حتى يرث مشروع الأسرة». ولا تنحصر أهمية انتقادات بفيفر لوليام وجاريد، اللذين وصفهما بـ»الأميرين» (24 حزيران/يونيو) في أن «نيويورك تايمز» نقلت عنه، في مقالها المعنون «أميران ساحران، وليسا ساحرين للغاية» (26 حزيران) أهم طروحاته. في هذا المقال الذي وضعته هيئة تحرير الجريدة الكبرى أن الزيارة الملَكية المتأخرة تعبر عن رغبة بريطانية في أن تجدد حضورها في منطقة خضعت لها في ما مضى. وفي حرص على مسافة فاصلة بين «نيويورك تايمز» وبين الصحافي الإسرائيلي الذي نقلت عنه، ينسب المقال إلى آنشيل بفيفر القول، الذي لا ينكره المقال ولا يتبناه صراحة، بأن وليام «تأخر وصوله إلى إسرائيل، عن الموعد المناسب لإحداث أثر ما، بسبعة عقود». أهمية الزيارتين المتعاقبتين اللتين قام بهما وليام ومن قبله جاريد، تعود إلى أمور عدة منها الترابط بينهما، كأنهما بيتان متلاصقان، لكل منهما وجهته، وهذا التصور يستند الى وصف «نيويورك تايمز» الزيارتين بأنهما back-to-back visits . وبهذا المعنى يمكن القول إن تجديد محمود عباس تأكيده، في لقائه الأمير وليام، حرص الفلسطينيين على السلام، ألحق بنتائج جولة جاريد ما لم يتيسر لجاريد أن ينجزه. وفوق ذلك، فقد وضعت تأكيدات عباس – مع حرص وليام على أن تشمل زيارته عمان قبل القدس ورام الله بعدها - نوبات النزق الترامبية والليكودية والعباسية (نسبة إلى محمود عباس الذي يخرج واشنطن من عملية السلام) في إطار دولي أكثر تعقلاً. لكن أهم ما في زيارتي «الأميرين» الشابين، على الإطلاق، أنهما ترتبطان بمستقبل الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، بأكثر مما تهتمان بالماضي الذي يبدو اليوم أن حل الدولتين صار جزءاً منه.
هذا الاهتمام بالمستقبل يتصل بحرص البريطانيين قبل زيارة وليام وأثناءها، على تأكيد أن الزيارة «لا سياسية»، ولا يعود ذلك الى مجرد الحذر في تدشين دور غير مسبوق لملك المستقبل، بل يعود أيضاً إلى أن معالجة الوضع الإنساني في غزة، أولاً، وفي الضفة الغربية كذلك، أمر ضروري للاستعداد لتفاهمات سياسية يمكن أن يتوصل إليها، مستقبلاً، الإسرائيليون والفلسطينيون، على أرضية من علاقات سوية لا بد منها للحفاظ على «إنسانية» الإسرائيليين والفلسطينيين. وهذا يذكرنا بما قاله، في «هاآريتس»، في مقال أشرنا إليه هنا (15 أيار) الكاتب آبراهام يهوشوا: «ما يتعرض للخطر الآن ليس هوية إسرائيل اليهودية والصهيونية بل إنسانيتها – وإنسانية الفلسطينيين الخاضعين لحكمها».
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع