السنة الماضية طلب الرئيس فلاديمير بوتين من الشعب الروسي الاحتفال بمرور مئة سنة على الثورة البلشفية التي استولت على سلطة القيصر من طريق العنف الذي مارسه لينين وتروتسكي وستالين.
ولاحظ المحتفلون أن بوتين حاول التبرؤ من انتمائه السابق إلى الحزب الشيوعي، خصوصاً بعدما وصفته الصحف الأجنبية بـ «القيصر الجديد».
ويعترف مساعدوه في الكرملين أن بوتين يطرب لسماع هذا الإطراء الذي يصنفه في خانة القياصرة القدامى. لهذا يرى خصومه في المعارضة أن ست سنوات إضافية لن تكون كافية لتحقيق طموحاته. لذلك رحب في برقية التهنئة التي بعث بها إلى صديقه شي جينبينغ بقرار برلمان الصين امتناعه عن تحديد ولايات الرئيس، بحيث جعلها مدى الحياة. من هنا وصفته وسائل الإعلام بـ «الإمبراطور الصيني الجديد!».
ولكن، أي من القياصرة يتمنى بوتين تقمص شخصيته؟
مظاهر التكريم هي المعيار الذي يتخذه الرئيس لإظهار إعجابه بشخصيتين حكمتا روسيا في مراحل مختلفة.
الشخصية الأولى تتمثل بأول قياصرة روسيا إيفان الرابع، الملقب بـ «إيفان الرهيب».
ومع أن سكان «اوريل» رفضوا إقامة نصب له في ساحة مدينتهم، إلا أن سيد الكرملين طلب من الحاكم الاحتفال بـ «القيصر المدافع عن روسيا». وقد مثّله في تلك المناسبة وزير الثقافة فلاديمير ميدينسكي، الذي ألقى خطاباً امتدح فيه صاحب التمثال، وقال إن سمعته لم تكن أكثر من كذبة روّجها الغربيون.
الشخصية الثانية التي يتمنى بوتين تقمصها هي شخصية ستالين، وإنما لأسباب خارجة عن سياسته الحزبية.
والسبب الأساسي يتعلق برهانه الانتخابي، في الولاية الأولى، على وقف الجرائم المنظمة التي اقترفها الشيشانيون في عهد سلفه بوريس يلتسن.
ويروي المؤرخون أن ستالين أسس جمهورية الشيشان ذات الحكم الذاتي عام 1945. ولكنه عاد ليتهم شعبها بالتعاون مع النازية. لذلك باشر في نفي المشاغبين وإعدام المقاومين وتهجيرهم إلى مجاهل سيبيريا وكازاخستان وقيرغيزيا.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، أعلن القائد الشيشاني جوهر دوداييف استقلال بلاده، متحدياً بذلك إرادة بوريس يلتسن. وكان من نتيجة ذلك النزاع أن قتِل دوداييف وحلّ مكانه سليم خان يندرباييف.
ويرى جان دانلوب، مؤلف كتاب «تفجيرات أيلول (سبتمبر) 1999» أن تلك الهجمات التي شنها متمردون شيشان تُعتبر في نظره بمثابة 11 أيلول روسيا. والسبب أن ضحاياها كانوا السلم الذي صعد فوقه بوتين لملء منصب بوريس يلتسن.
وتؤكد أحداث سورية أن الرئيس الرئيس الروسي أمر باستئناف عمليات الانتقام ضد المتمردين الشيشان بحيث أن ضباط استخباراته أمنت لأكثر من خمسة آلاف عنصر الالتحاق بـ «داعش» في الرقة. خصوصاً بعدما أعلنت الحركات الإسلامية الجهادية في الشيشان وداغستان وإنغوشيا الولاء والطاعة للخليفة أبو بكر البغدادي.
في السابع من أيار (مايو) 2012، أدى فلاديمير بوتين قسم رئاسة جمهورية روسيا الاتحادية، وذلك أثناء مراسم أقيمت في قاعة «سانت أندرو» داخل قصر الكرملين. وقد حرص على حضور ذلك الاحتفال كبار المسؤولين، إضافة إلى بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية وسائر المطارنة.
ويرى المعلقون أن بوتين استثمر عودته إلى حضن الكنيسة التي يعتبر امتداداتها الخارجية في دول البلقان والشرق الأوسط والساحل اليوناني مجرد قواعد دينية يمكن الإفادة منها سياسياً. ولقد كشف بعد تنصيبه رئيساً عن معموديته التي احتفظت بسرها والدته خوفاً عليه من انتقام النظام الملحد.
وفي ربيع 2014 شوهد مطران شبه جزيرة القرم وهو يبارك الجنود الذين ساهموا في إعادة القرم إلى حضن الأم الروسية.
وعندما كان أعضاء لجنة وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين يعلنون مقاطعة البطريرك اليوناني ثيوفيلوس بسبب تورطه في بيع أملاك البطريركية إلى إسرائيليين... وصل إلى بيت لحم بطريرك الكنيسة الروسية كيريل الأول كبادرة تعاطف مع القضية الفلسطينية.
وقام كيريل الأول يومها بزيارة الرئيس محمود عباس، عقب تأدية الصلاة في كنيسة المهد، فيما قرعت أجراس الكنيسة طوال مكوثه فيها.
وبين أهم الدلائل على صلابة التزام بوتين تجديد «المسألة الأرثوذكسية» زيارته المفاجئة للجبل المقدس في «دير أثوس» الواقع شمال اليونان في بحر إيجه. وبما أن زيارة هذا الموقع لا تتم إلا بواسطة سلة عملاقة موجودة دائماً على الشاطئ، لذلك وصلها بوتين على متن مروحية أقلعت من مكان قريب. وروى له رئيس الدير تاريخ هذا الجبل الذي اختاره رهبان الأرثوذكس ملجأ لهم عقب انهيار الامبراطورية البيزنطية.
ومن القوانين المتزمتة التي حرص رهبان هذا الدير على تطبيقها عدم قبول زيارة النساء، وعدم السماح بممارسة أي عمل تجاري أو مصرفي. ومن المؤكد أن عشرات الرهبان يعيشون على التبرعات السخية التي يقدمها أبناء الرعية. وفي صيف 2005 تعهد الرئيس بوتين لرئيس الدير بمساعدة سنوية رفض الإفصاح عن قيمتها.
كرّس اقتراع يوم الأحد الماضي فلاديمير بوتين زعيماً مطلقاً في المشهد السياسي الروسي. كما كشف أيضاً عن تراجع الأحزاب التقليدية بحيث سجل الحزب الشيوعي أسوأ نتيجة له بحصول مرشحه على نسبة لا تزيد على 12 في المئة. كذلك خرجت المعارضة الليبرالية بنتائج متواضعة بسبب تشرذمها وعدم اتفاقها على اختيار شخصية واحدة لمواجهة بوتين.
وفي لقائه مع المرشحين الخاسرين، وعدهم الرئيس المنتصر بأنه لن يدخل في سباق تسلح على مدى السنتين المقبلتين، وأنه يتطلع إلى فتح حوار مع كل الدول عبر الوسائل السياسية والديبلوماسية.
وقال أيضاً إنه يرفض حجة الغرب بوضعه كل مشكلات العالم على عاتق روسيا. وأكمل مازحاً: كما الحال في وضع الحب، فإنه من الضروري أن يكون الطرفان متشاركان في معاناته، وإلا لن يكون هناك حب.
ثم تابع بلهجة رصينة جادة ليقول إن سياسته الداخلية تهدف إلى التركيز على حل المشكلات العالقة، وضمان سرعة النمو الاقتصادي، ومعالجة ملفات تتعلق بتطوير خدمات الصحة والعلوم والبنية التحتية، وتأمين الرفاهية للمواطنين.
ويرى المراقبون أن تركيز بوتين على حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مردّه إلى تفاقم الظروف المعيشية الصعبة، والى هبوط مستوى الطبقة الوسطى إلى ما دون خط الفقر. وقد استند في اهتمامه إلى تقرير وزيرة شؤون الأسرة التي كشفت الدراسات التي أجرتها أن هناك أكثر من عشرين مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر.
ومع تجاوز روسيا في عهد بوتين خطر الإرهاب الخارجي، أظهرت استطلاعات أعدها «مركز دراسات الرأي العام» أن الوقت حان لتخفيف نشاط التورط العسكري الخارجي، خصوصاً بعدما دفعت بأكثر من 48 ألف جندي للمحافظة على نظام بشار الأسد.
ولكن نجم الديبلوماسية الروسية وزير الخارجية سيرغي لافروف لا يرى في هذا التفسير تشخيصاً كاملاً لصورة الوضع القائم. وهو يرى أن الوجود العسكري الدائم في قاعدتي «حميميم» و «طرطوس» أعطى أهمية إضافية لبلاده في حوض المتوسط، ووفر لموسكو الأمن الإقليمي وحماية مصالحها وسط مواجهات عسكرية متواصلة.
على رغم نجاحها العسكري في سورية وأوكرانيا، فإن روسيا ما زالت عرضة لاقتصاص الولايات المتحدة وعقوباتها المتواصلة. وعلى عكس ما يتمنى الكرملين، فان انتصاراته العسكرية في سورية لم تعزز فرص انتصاراته الديبلوماسية مع الدول الغربية. لذلك استمرت الحرب الباردة في خلق حال من التوتر والعداء. ولقد ظهر هذا الميل واضحاً بعدما انتهى المخرج السينمائي الأميركي أوليفر ستون من تصوير فيلم وثائقي استغرق عرضه مدة أربع ساعات. ويغطي هذا الفيلم مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والرياضية والإنسانية وكل ما يبلور شخصية فلاديمير بوتين.
وعندما عرض رابح جائزة الأوسكار الفيلم الوثائقي على بوتين، حذره سيد الكرملين من ردود فعل الأميركيين، وسأله: هل تعرضت للضرب في طفولتك؟
ولما هزّ ستون رأسه علامة الموافقة، ابتسم بوتين، وأكمل: إذن، عليك أن تستعد للضرب مرة أخرى.
ولكن أوليفر ستون، المخرج الذي عُرِف بجرأته المتناهية في انتقاد سياسة بلاده في حرب فيتنام، إضافة إلى عروض أخرى تميزت بإظهار المآخذ ضد الأجواء السائدة في أميركا، بقي وفياً لقناعاته ومبادئه.
وفي مطلع شبابه تزوج أوليفر فتاة لبنانية هي نجوى سركيس التي رافقها إلى بلدتها كوسبا في أول زيارة له للشرق الأوسط.
بقي السؤال المتعلق ببرنامج بوتين خلال السنوات الست المقبلة، وهل هو مصمم على الإمساك بمقاليد البلاد بعد عام 2024؟
في كتاب أصدره الخبير الاقتصادي مروان إسكندر عام 2006، تحت عنوان «الدب ينقلب نمراً»، يشير المؤلف إلى التحول الذي طرأ على روسيا عبر تعزيز مواقعها دولياً بواسطة رئيسها الاقتحامي فلاديمير بويتن. وقد تُرجِم الكتاب إلى اللغة الروسية بواسطة «الأكاديمية الثقافية».
الملاحظ أن بوتين كان يقوم باستعراضات جسدية بغرض التأثير في المواطنين قبل كل معركة انتخابية. وقد شوهد يوماً يقود بنفسه غواصة نووية في أعماق بحر الشمال. كما شوهد مرة أخرى يصطاد النمور في غابات الشرق الروسي، ثم يحرص على مداعبتها داخل أقفاصها في حديقة الحيوانات.
وربما اختار مروان اسكندر عنوان كتابه «الدب الذي انقلب نمراً»، بعدما شاهد بوتين على التلفزيون يتولى إطعام نمر داخل الحديقة!
نقلًا الحياه اللندنية