بعد إعلان استسلام ألمانيا النازية، عُقِد في «بوتسدام» أول مؤتمر للبحث في مستقبل الدولة المهزومة بحضور هاري ترومان وجوزيف ستالين وونستون تشرشل (17 تموز- يوليو - 1945).
اقتصر الوفدان، الأميركي والبريطاني، على الخبراء العسكريين فقط، في حين زاد ستالين على وفده المرافق أربعة موسيقيين ممن اشتهروا في أداء الموسيقى الكلاسيكية على البيانو. وقد تناوب الأربعة على تقديم مقطوعات متنوعة صفق لها أعضاء الوفود خلال فترات الاستراحة. وتبيّن لرئيس الحكومة البريطانية أن الزعيم السوفياتي يتعمّد الظهور بمظهر القائد الإنساني المرهف الحس، بهدف محو الصورة القبيحة التي رسمها الغرب عنه. أي صورة الرجل الظالم الذي قضى على الملايين من أبناء شعبه، خصوصاً خلال مرحلة تصفية الملاكين، والتخلص ممن سمّاهم «أعداء البروليتاريا.»
بعد مرور ثلاثة أيام، استغل تشرشل الفرصة لطرح سؤال محرج على ستالين، قائلاً: هل صحيح أنك أمرت بتصفية عشرة ملايين روسي؟ وتحاشى ستالين الجواب أمام أعضاء الوفود الأخرى، ولكنه بسط أصابع يده اليمنى وهزها في الهواء مرتين، ثم أتبع ذلك بالإشارة الى زيادة مليون بواسطة سبابته. ورفع تشرشل صوته، وقد أذهله الرقم الإضافي، فقال: أحد عشر مليون ضحية... هذا أمر فظيع! بعد العشاء طلب ستالين من المترجم نقل تعليقه على استغراب تشرشل، فقال: يا عزيزي ونستون، إذا قتل شخص شخصاً آخر، فالقانون يعتبر هذا العمل جريمة... أما في حال قتل الألوف والملايين، فالمؤرخون يُدخلون هذه الأرقام في علم الإحصائيات... ستاتيستيك!
ومن المؤكد أن وريث ستالين فلاديمير بوتين قد طبّق النظرية ذاتها في الشيشان، أثناء إبادة خصومه بواسطة البراميل المتفجرة! الأسبوع الماضي، صدرت مجلة «تايم» بغلاف أسود يتوسطه نور خافت منبعث من فجوة جدار اخترقته قنبلة، وقد كتبت تحت العنوان العبارة التالية: أصوات... من تحت الركام. ويُستخلَص من رمزية هذه الصورة أن أصوات ضحايا الغوطة الشرقية قد دخلت في قائمة إحصائيات الأمم المتحدة، وأن النظام السوري سيطبّق عليهم نظرية ستالين وبوتين!
كل هذا يحدث في ظل ارتفاع حصيلة الضحايا المدنيين الى ألف قتيل، بينهم 180 طفلاً على أقل تقدير، خلال أسبوعين في الغوطة الشرقية. ويؤكد أحد أطباء الجبهة أن الطفولة مستثناة في كل الحروب، ما عدا طفولة سورية. وهي تشكل ما نسبته واحد من كل أربع ضحايا... وأن اختلاط الدم بالغبار على وجوه البراءة هو السمة البارزة التي تثير حفيظة المؤسسات الإنسانية في العالم.
إضافة الى هذه المآسي، ظهرت قبل أسبوع عوارض اختناق وضيق تنفس على أكثر من سبعين مدنياً في بلدتي سقبا وحمورية في الغوطة، إثر قصف استهدفهما من قوات النظام وروسيا. ووفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، فإن القوات المهاجمة استخدمت غاز الكلور المحرَّم.
منذ منتصف شباط (فبراير) الماضي، تشن قوات النظام السوري حملة عنيفة على مناطق تسيطر عليها فصائل المعارضة في الغوطة حيث يعيش قرابة 400 ألف مدني. وبما أن القصف الجوي والصاروخي والمدفعي قد منعهم من التجوّل من أجل تأمين حاجاتهم من غذاء ودواء، لذلك ارتضت غالبيتهم الفرار بالسيارات التي تُشاهَد على الطرقات وهي تحترق بمَن في داخلها.
يصف المراسلون الأجانب الوضع الأمني في سورية بأنه شبيه بالوضع الأمني الذي تعرضت له أفغانستان، عقب الانقلاب العسكري الذي قام به «الحزب الشعبي الديموقراطي» في ربيع 1978. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1979، تدخل السوفيات في أفغانستان بهدف الاستيلاء على السلطة المحلية ومنع تمدد حركة «المجاهدين»، أي الحركة التي آزرتها قوى خارجية بينها: الولايات المتحدة والاستخبارات الباكستانية والمملكة العربية السعودية.
وبعد نزاع مرير، اضطرت القوات السوفياتية الى الانسحاب سنة 1989، قبل أن تجير السلطة الى الحزب الشيوعي الذي حكم ثلاث سنوات ثم انكفأ سنة 1992 عقب سقوط كابول.
على أثر ذلك الانسحاب، دعيت الأحزاب الأفغانية الى مؤتمر عُقد في مدينة «بيشاور» الباكستانية لتحديد هوية النظام الجديد. وأعلن المجتمعون ولادة «الدولة الإسلامية الأفغانية»، مع تشكيل حكومة انتقالية. ولقد اعترض على ذلك الإجراء الزعيم قلب الدين حكمتيار، الذي طلب من جماعته استئناف القتال. وكانت تلك الخطوة بمثابة تشجيع لقوى مناهضة لحكمتيار بينها: إيران والسعودية والهند وأوزبكستان.
بعد فترة سنتين، ظهر على الساحة وزير الدفاع أحمد شاه مسعود، ليرسخ النظام ويمنع الفوضى ويعيد الأمن الى كابول. والثابت أن قيادة الاستخبارات الباكستانية كانت تراهن على قوة أخرى ظهرت في مدينة قندهار، هي قوة «طالبان.»
ولقد قدِّر لها أن تحكم فترة قصيرة من الزمن كانت كافية لإقناع شعوب تلك المنطقة بأنها النسخة الأولى عن تخلف «داعش» ووحشية حكمه.
في نهاية الأمر، فإن مرحلة الفلتان الأمني والنزاعات العشائرية استمرت أربعين سنة قبل أن يهدأ الوضع في أفغانستان نسبياً، وتعود الى كابول سلطة تنقصها قوة السيادة لبسط نفوذها على كامل الأرض.
عودة الى وصف المراسلين الأجانب الذين يحسبون أن طريق سورية الى الاستقرار واستقلال القرار يحتاج الى فترة طويلة لا تقل عن أربعين سنة. كل هذا بسبب حاجة مشاريع إعادة الإعمار الى شبه خطة «مارشال» يزيد تمويلها الأساسي على مئتي بليون دولار. كما تحتاج أيضاً الى سبع سنوات في حال تأمن المبلغ من جهات استثمارية محلية كانت أم خارجية.
وتبرز صورة التماثل بين أفغانستان وسورية بوفرة عدد الدول المتورطة في النزاع داخل المدن السورية، مثل ايران وروسيا والولايات المتحدة. إضافة الى أكثر من مئتي ميليشيا محسوبة على المعارضة والنظام، ظلت لمدة سبع سنوات تبحث عن الحل في اسطنبول وجنيف وآستانة، فلم تنجح.
والسبب أن الرئيس فلاديمير بوتين يوظف منجزاته العسكرية في سورية من أجل ربح ولاية رابعة بسهولة وسلاسة. كذلك يحاول النظام الايراني تحسين وضعه الداخلي من طريق إعادة سيطرته على عمليات نقل الصواريخ الى «حزب الله»، متحدياً بذلك الضمانات التي قدمها بوتين الى بنيامين نتانياهو.
وفي الوقت ذاته، يقوم الجيش التركي بالتوغل داخل الحدود الشمالية لسورية بحجة طرد تنظيم «وحدات حماية الشعب» الكردي الذي تعتبره أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني. وهو حزب يخوض تمرداً ضدها منذ عقود. وفي العشرين من كانون الثاني (يناير)، أطلقت تركيا عملية «غصن الزيتون» بدعم من مقاتلين ينتمون الى فصائل معارضة سورية. وذُكِر في هذا السياق أن قوات موالية للأسد استغلت هذا الوضع لمناصرة الأكراد في منطقة عفرين، الأمر الذي اعتبره رجب طيب اردوغان تأييداً صريحاً لموقف الأكراد من تركيا.
غداً الأحد، ينتخب الروس فلاديمير بوتين لولاية رابعة تدوم ست سنوات وتنتهي سنة 2024. ومع أنه أعلن قبل أسبوع لمحطة «ان بي سي» الأميركية رفضه تقليد نظيره الرئيس الصيني في السعي الى رئاسة مدى الحياة، إلا أن إعلانات حملته الانتخابية تشير الى عكس ذلك. فهي تظهره جالساً فوق عرش القيصر، يحمل الصولجان بيمينه ويعتمر التاج المرصّع بالأحجار الكريمة.
ويرى المراقبون أن ممارساته الأخيرة توحي بالتغيير الذي طرأ على نهجه قبل أن يبدأ ولايته الرابعة. ذلك أنه ركز اهتمامه على مصير شبه جزيرة القرم، متجاهلاً قرارات الأمم المتحدة. تماماً مثلما تجاهل اتهامات رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي حول عملية تسميم العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال.
مقابل هذا التحوّل في تعاطي بوتين مع خصومه، حذر المعلقون الأوروبيون من خطورة إعفاء وزير خارجية اميركا ريكس تيلرسون من منصبه. خصوصاً أن ترامب برَّر هذا القرار بالقول إنه كان يختلف معه في الكثير من القضايا، وبينها موقفه المهادن من الملف النووي الإيراني.
ويُستَدَل من هذا التبرير أن ترامب عازم على إلغاء اتفاق الملف النووي. وفي حال نفذ تهديده، فإن المنطقة مقبلة على مواجهة عسكرية على طول الحدود مع إسرائيل!
نقلا عن الحياه اللندنية