بدلاً من إعلان انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران اليوم السبت (12 أيار - مايو)، قرر دونالد ترامب استباق تاريخ التوقعات خوفاً من ازدياد حجم الضغوط التي تمارسها الدول الأوروبية عليه.
وكانت الإدارة الأميركية قد حددت يوم 12 أيار موعداً نهائياً بهدف تلبية مطالبها بخصوص إصلاح عيوب الاتفاق النووي الذي وصفه ترامب بـ «الكارثي.»
لماذا؟
لأنه في رأيه بُني على أكاذيب وادعاءات غير دقيقة، خصوصاً بالنسبة إلى القدرات النووية المتقدمة والمتطورة التي حجبها عن المفاوضين وزير الخارجية محمد جواد ظريف بحسن أدائه وظرفه الديبلوماسي.
وكان واضحاً من سياق الأحداث، أن الدول التي شاركت في إبرام اتفاق سنة 2015 لم يكن موقفها من إيران منسجماً مع موقف الولايات المتحدة.
وقد ظهر هذا الأمر جلياً خلال الزيارتين السابقتين اللتين قام بهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا مركل. ولما تسربت معلومات تشير الى تصلّب ترامب بتشجيع من وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو، أرسلت كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وزراء خارجيتها بهدف كبح الاندفاع الأميركي. وأدلى الثلاثة بتصاريح متجانسة سياسياً، كالقول: «إن قيود الاتفاق النووي تساهم في التصدي لسلوك إيران العدواني»... أو: «إن الاتفاق جعل العالم أكثر أمناً، وإن أخطار التصعيد ستزداد في حال إلغائه».
في الوقت ذاته، دخلت إيران على خط الأزمة لتحذير واشنطن من تداعيات عملها المتهوّر. كذلك أكد الرئيس حسن روحاني أن إلغاء الاتفاق وإعادة فرض العقوبات سترد عليهما طهران بإجراءات صارمة لا تعلن عنها في الوقت الحالي.
وحول الأزمة ذاتها، هدد أيضاً رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي بالعودة الى تخصيب اليورانيوم بنسبة عشرين في المئة داخل منشأة «فردو»، أي المنشأة التي تقع تحت جبال ضاحية مدينة «قم»، والتي تعهدت إيران أثناء المفاوضات بتحويلها من منشأة لتخصيب اليورانيوم الى مركز للأبحاث الفيزيائية والتكنولوجيا.
المهم، إن تهديدات إيران وضغوط أوروبا لم تثنِ دونالد ترامب عن الوفاء بوعده أثناء الحملة الانتخابية بأنه سيلغي الاتفاق النووي.
كتبت الصحف الإسرائيلية تقول إن توقيت عرض مسروقات الأرشيف النووي الإيراني من قبل بنيامين نتانياهو ساعد ترامب على تسريع إعلان قراره. ولكن طهران في الوقت ذاته استفادت من الخلاف الأوروبي - الأميركي حول مشروعها لتدق إسفيناً بين حليفَيْن تاريخيَيْن. وهي ترى أن اتهامها بإخفاء معلومات تتعلق ببرنامجها النووي ليس أكثر من ساقية في بحر الغموض الذي استخدمته إسرائيل لإخفاء حيازتها على مئتي رأس نووي منذ مطلع الستينات. ولولا الفضيحة الإعلامية التي فجرها «مردخاي فعنونو» في «الصنداي تايمز» لظلّ التعتيم الإسرائيلي على مفاعل «ديمونا» قائماً حتى اليوم.
يعتقد الرئيس ترامب أن سلفه باراك اوباما حقق لإيران طموحاتها التوسعية عبر الاتفاق النووي. والسبب أنه حررها من العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية والحصار العسكري. لذلك، نجحت في توسيع نفوذها داخل العراق وسورية ولبنان واليمن.
وترى إسرائيل في برنامجها النووي رادعاً ضد أعدائها في المنطقة، خصوصاً أنها تحتكر هذا السلاح المدمر. لهذا السبب قامت بعمليات وقائية، فضربت المفاعل النووي العراقي سنة 1981 والسوري سنة 2007. ولقد أعرب نتانياهو عن استعداده لعمل الشيء ذاته مع طهران. علماً أنه يتحاشى زجّ قواته في حرب واسعة إن كان في الأجواء الإيرانية التي تبعد من إسرائيل آلاف الكيلومترات، أم في الأراضي السورية التي يكلفه احتلالها أعداداً كبيرة من الضحايا. وقد سبق أن علمتها التجارب في جنوب لبنان وغزة أن احتلال أراضي الآخرين ليس بالمسألة السهلة. وأخطر ما تعتبره إسرائيل تهديداً مباشراً لأمنها هو عشرات الألوف من الصواريخ التي يملكها «حزب الله».
من المفارقات الملفتة في هذا السياق أن جميع المساعدين الذين استشارهم ترامب، قبل الإقدام على إلغاء الاتفاق، نصحوه بالتأجيل الى ما بعد اجتماعه بزعيم كوريا الشمالية. والسبب كما اختصرته النصائح يتمثل في احتمال نفور الزعيم كيم جونغ أون، وتمنّعه عن عقد اتفاق مع دولة لا تحترم توقيعها والتزاماتها.
ثم تبيّن هذا الأسبوع أن وزير الخارجية مايك بومبيو قد عاد من كوريا الشمالية، مصطحباً ثلاثة محتجزين أميركيين كان ترامب قد طلب تحريرهم من الأسر. ومن المؤكد أن الرئيس الأميركي سيستفيد شعبياً من بادرة حسن النيّة لإثبات أنه كان على حق.
ويرى الديبلوماسيون أن دوافع البادرة بقيت سراً من أسرار زعيم الصين شي جينبينغ الذي زاره كيم قبل فترة وجيزة.
الموقف الذي اتخذته الدول الأوروبية الثلاث، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، قوبل بالاعتراض والامتعاض من قبل الرئيس ترامب، الذي اعتبره حبل نجاة رُمي في بحر الأزمة لإنقاذ إيران من الغرق. في حين أصرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تطبيق الاتفاق، واعتماده منصة لتسوية أوسع تحفظ للدول الأوروبية والمحايدة حرية التجارة مع طهران.
ولما اتصل ماكرون بنظيره حسن روحاني ليطلب منه عدم الانسحاب من الاتفاق، وافق الرئيس الإيراني مشترطاً استثمار فرصة محدودة جداً قبل أن يتخذ مرشد النظام علي خامنئي قراره النهائي. لذلك، بادرت الحكومة الفرنسية بلسان وزير خارجيتها الى الإعلان بأن «الاتفاق لم يمت».
كذلك أعلنت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل «أن برلين وباريس ولندن ستبقى ملتزمة الاتفاق، وستقوم بكل ما يلزم لضمان بقاء إيران فيه».
ورأت الإدارة الأميركية في تعليقات الدول الثلاث حركة انشقاق عن موقفها، وتمرداً سافراً سيقود مستقبلاً الى انفصالها عن الصف الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة. ولكن ماكرون بادر الى إسقاط هذه الزعامة عندما أعلن رفضه أن تكون أميركا هي «شرطي العالم»!
وسخر عدد من المعلقين العرب من تأجيج نار الخلافات الأوروبية - الأميركية، والتي تصب في مصلحة رئيس وزراء إسرائيل الذي دُعي إلى المشاركة في احتفالات نصر روسيا على النازية. ويتردد في موسكو أن الرئيس فلاديمير بوتين سحب الضمانات التي منحها للطيران الحربي الإسرائيلي في الأجواء السورية، متذرعاً بأن الرئيس بشار الأسد هو الذي يسيطر على معظم مساحة البلاد.
ومع أن حبل الود بين روسيا وإيران مقطوع في بعض أجزائه، إلا أن طهران شريكة موسكو في عملية حماية نظام بشار الأسد. لهذا السبب وسواه لا تسمح روسيا لإسرائيل بأن تعطل الشراكة الاستراتيجية مع إيران. خصوصاً أن الفرصة مواتية لإضعاف النفوذ الأميركي في سورية. وقد تعرض وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أكثر من مرة لهذا النفوذ، واصفاً الوجود الأميركي في سورية بأنه غير شرعي، ويعرّض للخطر الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط.
بقي السؤال المتعلق بموقف ترامب من الدول الأوروبية المتمردة، وما إذا كان سيتدخل لتشكيل ائتلاف جديد يضم الدول المحايدة.
الولايات المتحدة لا تستطيع إجبار الدول الأوروبية وروسيا والصين على الانسجام معها في الموقف المعارض للاتفاق النووي. كما أنها ليست متأكدة من تأييد العقوبات التي تريد فرضها على إيران. ونتيجة هذا الوضع المتأزم، تستطيع إيران مواصلة تمتين علاقاتها التجارية مع هذه الدول. وهي مقتنعة بأن التسهيلات التي تزمع تقديمها ستؤمن لها علاقات طبيعية مع دول أوروبا وروسيا والصين ودول شرق آسيوية أخرى مثل كوريا الجنوبية والهند.
أحد الرؤساء العرب سأل ترامب، أثناء زيارته البيت الأبيض، ما إذا كانت إسرائيل مستعدة لنزع سلاحها النووي، مثلما تطلب إسرائيل من إيران!
وكان جواب الرئيس الأميركي مقتضباً، إذ أجاب: أنا على استعداد لطرح هذا الموضوع، شرط أن تعترف كل الدول العربية والشرق أوسطية بحقها في الوجود.
وعاد الزائر العربي يسأل عن عدد المحاولات التي أجرتها البعثات الأميركية من أجل تثبيت المقررات الدولية المتعلقة بالدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها وفق القرار 242. وذكّره بالمبادرة التي طرحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة العربية التي عقدت في بيروت، والتي شملت الدول العربية.
وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعين سنة على صدور ذلك القرار، فإن الوسيط الأميركي لم يحسم موقفه النهائي بعد. وكان واضحاً من سرقة أربعين بالمئة من أراضي الضفة الغربية أن التسويف والمماطلة في تنفيذ الحلول كانا يمثلان خطة هادفة لإنشاء دويلة فلسطينية مقطعة الأوصال غير قابلة للحياة والنمو.
وبعد كل هذا، يأتي وزير الخارجية الأميركي الجديد مايك بومبيو ليعلن في عمّان: «إن الخلاف على الدولة الفلسطينية غير قائم، إنما الخلاف على حجمها وسيادتها ومكانها».
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع