بقلم : عبد الرحمن شلقم
النازية كانت الانفجارَ الكونيَّ الكبير والحريق الذي أدَّى إلى دمار العالم، هي النقيض للانفجار الكبير الذي صاغ الوجود.
الاستعمار كان أكبر النقائص في الحضارة الأوروبية الحديثة وسيتخلص العالم منه يوماً، مثله مثل الشيوعية، لكن النازية كانت شيئاً آخر، إنها المقصلة الكونية الكبرى التي ستقطع أهم إنجاز إنساني، وهو الحرية. انتصرت أوروبا على القهر الكنسي الذي صنع جدراناً حديدية حبستِ العقل، وأبطلتْ مفعول الفكر، وخنقت بحبال الخرافة رقبة الحرية، وأصبح الظلام ستاراً من الحديد يعمي العقول ويغل الأيدي. بعد جهد ومعارك طويلة انتصرت أوروبا على نفسها، فاشتعلت أنوار العقل تشع فكراً وحرية، وتدفقت أنهار العلم والاختراعات والتطور، صارت الفلسفة وقوداً أسطورياً يدفع الناس إلى تأسيس حياة لم تشهدها الدنيا من قبل، انتصر الدواء على الأمراض والاتصالات والمواصلات، على المسافات. وانهارت الديكتاتوريات والحكم المطلق، وانحسر الظلم على الأرض الذي جسده الملوك المقدسون والقياصرة القتلة.
قرعت الحرب العالمية الأولى ناقوس النار العالمية، لكن تلك الحرب كانت من أجل امتلاك التراب والثروة والقوة، كانت الحرب الأولى انفجاراً محدوداً، فلم تكن الآيديولوجيا من مكونات وقودها، ولم تطفُ العنصرية فوق بحور الدماء، لكن الانفجار الكوني الثاني، الذي سُمِّيَ الحرب العالمية الثانية، كان حرباً ضد البشر، ضد أجسام الناس ورؤوسهم، كان مشروع الدمار الكبير. النازية في مواجهة الديمقراطية، ثم الشيوعية في الاتحاد السوفياتي. لاح الرعب الرهيب عندما توالت انتصارات جيوش هتلر، بقوة المراس وشدة الاندفاع والسلاح الخفيف والثقيل، الذي لم يسبق وجوده على الأرض، وأقام النازيون معسكرات الاعتقال والتعذيب والقتل الجماعي وحرق البشر في غرف الغاز والمشانق.
همجية كتبها جنون العنصرية، بحروف التفوق العرقي الآري، تحملها دبابات مدمرة وطيران غاشم وضباط وجنود مهووسون، يسحقون الناس ويخنقون العقول. تحالفت النازية مع قوة فاشية إيطالية، ملأها هوس عصابي بإعادة تأسيس الإمبراطورية الرومانية التي التهمتها سنوات القرون الغابرة، وقوة يابانية أسكرتها العنصرية الوطنية التي نظرت إلى الشعوب الأخرى بعين الاحتقار واستباحت دماءها.
هكذا قُرع ناقوسُ الدم الكوني، الذي أنذر بانتكاسة رهيبة للبشرية، وإنهاء مشروع الحرية، الذي تحقق بعد صراع إنساني شجاع وطويل مع ظلمات الحكم المطلق، كانت الطريدة التي لاحقتها مدافع النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، ومعها جنون العظمة الياباني، هي الحرية الإنسانية. مكون آيديولوجي آخر كان طرفاً في تلك النار العالمية، وهو الاتحاد السوفياتي الشيوعي، الذي رأى فيه هتلر منذ تأسيس حركته النازية العدو الأول. غزت ألمانيا الاتحاد السوفياتي بعد احتلالها لبولندا، ثم فرنسا، ووجدت موسكو نفسها دون خيار في صف الحلفاء، فرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة التي انضمت إليهما فيما بعد.
تعاهد السوفيات والألمان على عدم الاعتداء، باتفاقية ريبنتروب وزير خارجية هتلر، ومولوتوف وزير خارجية ستالين، لكن الطموح النازي لم تسكته حروف الاتفاقيات يوماً، هتلر لم يكن يريد الأرض والحديد والنفط فقط، ورؤوس وأجساد من اعتقد أنهم مخلوقات لا قيمة لها، بل كان هدفه الأول هو اجتثات كل ما له علاقة بكيان الحرية وتكوينها. اعتقد السوفيات أن نفي الحرية يمكن أن يكون حبل القوة الذي يشد الطرفين، السوفياتي والألماني بعضهما إلى بعض، لكن طموح هتلر كان أكبر وأطول من كل الحبال وكل المعاهدات. من يتعلق بحبل الحرية، ينفتح عقله وتتنور رؤيته فيحول ضعفه إلى قوة، ومن يعادي الحرية يغلق على عقله، فتدمس رؤيته وتوهن قوته وتذهب ريحه.
بريطانيا لم تعدم جنرالاتها الذين خسروا بعض المعارك أو سياسيّيها الذين عارضوا رئيس الوزراء ونستون تشرشل. في أتون الحرب والغارات الجوية على لندن وإغراق السفن البريطانية، ظل يستمع لمجلس العموم ومجلس اللوردات، في حين قدم الجستابو الألماني للمارشال الألماني رومل خيارين، إما أن يحاكم بتهمة الخيانة ويعدم، وإما أن يتجرع كبسولة السم التي قدَّموها له بلطف ليموت بهدوء وتقام له جنازة وطنية مهيبة، ترافقها أكوام الورود هدايا من الفوهرر، كانت خطيئة رومل البطل الوطني الذي قاد معارك عدة، وحاز أعلى الميداليات العسكرية، هي مخالفته خطط هتلر الحربية، فوجَّهت له تهمة التواطؤ مع المتآمرين على اغتيال هتلر.
ستالين ذاته الذي أبدع منهجاً ديكتاتورياً كتبه بدماء رفاقه في الحزب وجثث المدنيين والمنفيين إلى جليد سيبيريا، اضطر بعد طوفان الهزائم أن يغير مساحة الاستماع إلى مساعديه وقادته العسكريين، عندما أبلغته مخابراته منذ البداية أن هتلر قد اتخذ القرار بغزو الاتحاد السوفياتي، رفض ذلك وتمسك بثقته باتفاقه مع هتلر، وعندما اندفعت الجيوش النازية نحو موسكو، خضع الديكتاتور الرهيب لرأي جنرالاته، وسلَّم القيادة العسكرية للمارشال جوكوف، الذي قاد الجيوش السوفياتية إلى مقر الرايخ ببرلين. لم تكن الحرب الكونية حرب عضلات حديدية فحسب، بل كانت حرب عقول ومساحات حرية.
بعد مرور 80 عاماً على معركة الجنون الكونية الدموية، لا تزال نواقيسها ترن في العقل والضمير الإنساني، فأنهار الدم وإن جفت والقبور الجماعية المعروفة والمجهولة وإن طمسها الزمن، ستبقى صوتاً يطوف حول العقول التي تبدع الأضواء للبشرية، من أجل دنيا تسود فيها قوة الحرية، التي تجعل الإنسان إنساناً يتفوق على جنون التوحش في تكوينه وسلوكه.