توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تايتانيك الفقراء

  مصر اليوم -

تايتانيك الفقراء

عبد الرحمن شلقم
بقلم _ عبد الرحمن شلقم

عاش العالم في الأيام الماضية، صدمة بسبب ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية، حول الكارثة الإنسانية التي شهدها البحر الأبيض المتوسط، إثر غرق مركب كبير يحمل أكثر من سبعمائة شخص. انطلق المركب من ليبيا، وفوقه مئات الهاربين من معاناة الفقر، دفع كل واحد منهم أكثر من 3 آلاف دولار إلى تجار الموت. شباب وأطفال ونساء، يدفعهم حلمهم نحو أضواء أوروبا. غرقت الحياة ومعها الأحلام قبالة الشواطئ اليونانية. المئات الذين باعوا كل ما يملكون، وما جمعه أهلهم من مدخرات وعقارات، مغامرين فوق القبر الأبيض المتوسط نحو دنيا الحلم الموعود، إيطاليا. لجوء البشر تاركين أوطانهم إلى بلدان أخرى، قضية شغلت قادة الإنسانية منذ زمن بعيد. بقيت حية تعيش في كل الحقب الإنسانية، قبل رسم الحدود بين البلدان وقبل اختراع جوازات السفر والتأشيرات. مئات الجثث تتكدس في قاع البحر الأبيض المتوسط الذي يشهد تزاحماً لسمك القرش هذه الأيام على شواطئه. ما حلَّ بالفقراء الهاربين نحو دنيا الحلم أمام الشواطئ اليونانية، كان فاجعة فاقت ما حل بسفينة تايتانيك التي لم تغب عن الذاكرة البشرية إلى اليوم. مأساة توقظ أخرى.

لقد انشغل الساسة في النصف الأول من القرن المنصرم، بموضوع الهجرة، تحت عنوان اللجوء، الذي يعني مغادرة البشر من أوطانهم كرهاً إلى بلدان أخرى.

غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد العالم ظاهرة إنسانية شغلت السياسيين. هجرة مجموعات كبيرة من أوطانهم الأصلية إلى بلدان أخرى قريبة وبعيدة. أنجزت منظمة الأمم المتحدة اتفاقية اللاجئين. وافقت أغلب الدول المستقلة آنذاك على الاتفاقية وصدّقت عليها. كان العالم يعيش في أجواء ما لحق به من مآسٍ ومعاناة الملايين من القتل والدمار. تلك الاتفاقية التي أصدرتها منظمة الأمم المتحدة 1951، كانت تعبيراً إنسانياً عن الرغبة السياسية في تأسيس فضاء كوني يرتكز على معايير تطوي صفحة مأساوية دموية، كتبتها الفاشية والنازية والعنصرية، ودفع العالم كله تقريباً ثمن بشاعتها. بعد سنوات من استقلال جميع بلدان العالم انضم أغلب أعضاء الأمم المتحدة إلى اتفاقية اللاجئين.

تطورات سياسية واقتصادية في سنوات الحرب الباردة، خلقت عالماً آخر. انقسم فيه العالم إلى معسكرين، وصار للجوء مفاهيم ودوافع وتوظيف سياسي. اللاجئون من المعسكر الشيوعي إلى الطرف الآخر الرأسمالي، أصبحوا ورقة سياسية يوظفها الجانب الرأسمالي ضد غريمه الشيوعي. اتفاقية 1951، طاولها الكثير من غبار الصدام السياسي.

تغيرت المنظومة السياسية الدولية، وارتفع عدد البلدان المستقلة منذ قيام منظمة الأمم المتحدة. في البداية أُنشئت الوكالة الخاصة لشؤون اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وارتكزت موادها على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي نص في مادته رقم 14 على أن لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى، أو يحاول الالتجاء إليها (هرباً) من الاضطهاد. في خضم التطورات الإنسانية والسياسية الدولية، صارت قضية الهجرة ظاهرة عالمية فرضت نفسها على محفل السياسة الدولية. وفي عام 1950، قررت الأمم المتحدة، إنشاء مفوضية شؤون اللاجئين، ومهمتها الأساسية، توفير الحماية الدولية للاجئين في جميع أنحاء العالم.

تضمّنت الوثائق الدولية تعريفات لأسباب اللجوء التي تدفع الأفراد إلى مغادرة أوطانهم إلى بلدان أخرى، حتى من دون الحصول على تصريحات دخول رسمية. يمكن تلخيص تلك الدوافع في تهديد الحياة والحرية والاضطهاد، بسبب العرق أو الدين أو الانتماء السياسي.

في عام 1967 صدر البروتوكول الخاص باللاجئين الذي يعد إضافة أو ملحقاً للاتفاقية، وإن اعتبر وثيقة مستقلة، وصدّقت عليه أغلب الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وذلك يبرز إدراك ساسة العالم للتطورات التي شهدها العالم واستدعت تحديث الضمانات القانونية في هذا الموضوع الإنساني المهم. البروتوكول اهتم بموضوع إدماج اللاجئين واحترام عقائدهم الدينية وثقافاتهم ومنع إعادتهم قسراً إلى بلدانهم.

ما يعانيه اللاجئون اليوم على أيدي تجار البشر، هو في الحقيقة كارثة مضافة إلى الكوارث التي دفعتهم إلى مغادرة أوطانهم. اللاجئون الذين يغامرون بتسليم أنفسهم إلى مجرمين، يستولون على ما لديهم من مال، ويشحنونهم في وسائل نقل متهالكة ويعبرون بهم الصحراء الكبرى، ويموت منهم الكثيرون، ويكدس من يصل منهم في مجمعات النخاسة، ليعاد بيعهم إلى قراصنة البحر الأبيض المتوسط، ليكدسوهم في مراكب متهالكة نظير 4 آلاف دولار عن كل فرد هارب من خوفه وجوعه نحو شعاع الأمل في أوروبا. وفي بلدان أميركا اللاتينية ينشط جيش يجمع بين تجارة البشر والمخدرات والجريمة المنظمة. من دول أميركا اللاتينية يتزاحم البشر على حدود الولايات المتحدة الأميركية، شبكات المهربين لا يترددون في استغلال معاناة الملايين الهاربين من الفقر نحو أضواء بعيدة تشعل خيالهم وحلمهم، والسلطات الأميركية، خصوصاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، رأت أن تبني سوراً عالياً على حدودها مع الدول التي يعبر منها اللاجئون إليها.

اليوم هناك أكثر من مائة مليون لاجئ في بلدان مختلفة من العالم. كل واحد من هذه الملايين وراءه دافع أو أكثر لمغادرة وطنه. الحروب الأهلية والاضطهاد والقمع والإرهاب السياسي والديني والعرقي والفقر وغيرها، دفعت الملايين إلى الفرار واللجوء إلى حيث يعتقدون أنهم سيجدون مكاناً يحققون فيه إنسانيتهم.

لقد صار من المُلح أن تعيد المنظمات الدولية، وتحديداً الأمم المتحدة، النظر في الاتفاقية الخاصة باللاجئين والبروتوكول الإضافي، وأن يُصار إلى إصدار ميثاق إنساني جديد يراعي ما شهده ويشهده العالم من تغييرات تختلف عمّا كان وقت صدور الاتفاقات السابقة، لمعالجة ظاهرة اللجوء الحالية، التي تتسبب في كوارث تقضي على آلاف الهاربين قسراً من أوطانهم. تحقيق السلم والتنمية وحقوق الإنسان في بلدان المصدر، هو أول الحلول لهذه الظاهرة التي تشكل بقعة سوداء في عالم اليوم، الذي تسود فيه معاناة في بعض بلدان العالم، تدفع مواطنيه إلى المغامرة بالرحيل إلى دول أخرى مخاطرين بحياتهم، في حين تعيش دول أخرى في دنيا الرفاه والحرية. قفل الطرق البرية والبحرية ليس هو الحل، ولن يقدم إلى المغامرين هرباً من أوطانهم ما يجعلهم يتراجعون عن المغامرة. لقد قدمت الولايات المتحدة الأميركية مساعدات كبيرة إلى الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، فيما عرف بـ«مشروع مارشال»، الذين مكّن الدول الأوروبية من تجاوز ما لحق بها من دمار في الحرب والقدرة على الإقلاع الاقتصادي. أعتقد أن الوقت قد حان لمراجعة كل ما صدر عن الأمم المتحدة من مواثيق حول قضية الهجرة واللجوء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تايتانيك الفقراء تايتانيك الفقراء



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon