توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نقد ونقد النقد للعقل الإسلامي والعربي

  مصر اليوم -

نقد ونقد النقد للعقل الإسلامي والعربي

بقلم : عبد الرحمن شلقم

كانت كلمة النقد، هي عنوان عقود ثلاثة، لمسيرة طويلة عاشها الفكر العربي. أعمال ضخمة أعطاها علماء كبار، سنوات من جهدهم وأعمارهم. الدكتور محمد عابد الجابري، قضى قرابة العشرين سنة باحثاً في التراث العربي، وقدم مجلدات ثلاثة، تحمل عنواناً رئيساً؛ نقد العقل العربي. «البيان والبرهان والعرفان»؛ محطات وقف عندها الباحث الكبير واعتبرها مكونات العقل العربي عبر القرون.
لم يعتبر الجابري ما أنجزه مشروعاً فكرياً متكاملاً، وإن رآه بعض الباحثين والمفكرين كذلك. تحدث الجابري في محاضرات ألقاها في كثير من البلدان العربية عن ثلاثيته البحثية. أُجريت معه مقابلات إعلامية مكتوبة ومرئية. نال الاهتمام والتبجيل لسنوات، لكن أعماله الضخمة التي انتقد فيها مسارات العقل العربي، كانت محل نقد واسع من باحثين وأساتذة عرب في مشرق الوطن ومغربه. المفكر والمترجم جورج طرابيشي، كان أبرز الناقدين لنقد الجابري. وهب سنوات من عمره لنقد نقد الدكتور محمد عابد الجابري للعقل العربي. ويمكننا القول إن جهد جورج طرابيشي النقدي، كان موسوعة مضافة لأعمال الجابري. قال الجابري: نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. أراد الجابري منذ البداية، أن يكون قارئاً حداثياً للتراث، وليس ممجداً له. اجتهد ليكون موضوعياً محايداً ومقيّماً للتراث. كتب الجابري مستهِلاً عمله: لا يمكن تبني التراث ككل؛ لأنه ينتمي إلى الماضي، ولأن العناصر المكونة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر. وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه. الجابري أستاذ أكاديمي، وسياسي متحزب، وله انتماء أيديولوجي قومي تقدمي، وإن اعتبره بعض الدارسين أن به شيئاً من المحافظة. قد يكون في الأمر بعض مما ذهبوا إليه، فلكل مفكر أو دارس، هدف يتحرك نحوه. الدكتور محمد عابد الجابري، عاش ودرس وكتب في حلقة زمن عربي مأزوم. ولم يغب السؤال الذي حمله المفكرون والمثقفون العرب في رؤوسهم لعقود طويلة، وهو: لماذا يستمر سقوطنا في هوة التخلف، في حين يواصل الآخرون التحليق في فضاءات النهوض والتقدم؟
التخلف ضرب من المرض، ولا شفاء منه إلا بعد تشخيصه، كي يُصار إلى كتابة وصفة الدواء.
التجربة الأوروبية في الانتقال إلى رحاب النهوض والتقدم، كانت ولا تزال حاضرة في حياة الشعوب التي تجاهد من أجل الانعتاق من ربقة التخلف. كان تحرر العقل هو ومضة الانطلاق في أوروبا، وكانت المعركة الكبرى مع قبضة الكنيسة، وكان العقل هو وقود الإقلاع؛ العقل الفاعل في رحاب الحياة بكل جوانبها، وكان نقد العقل هو سماد الخصب في الفكر. إلى اليوم وبعد قرون من تقدم العلم في كل المجالات، لا تزال أوروبا تواصل نقد ذاتها، ومراجعة ما هي فيه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وحتى نفسياً.
الماضي مستنقع مليء بالوحل، مثل ما هو مخزن لما أبدعه الإنسان في مسيرته الطويلة الشاقة. النقد هو الغربال الموضوعي الذي ينتخل من الموروث ما ينفع الناس اليوم، وما هو ثقل لا مندوحة من التحرر منه. لقد اشتبك المفكر والأستاذ الباحث محمد الجابري مع التراث في رحلة طويلة، شكّلت نقلة نوعية في مسيرة الفكر العربي. لسنوات طويلة، كان العرب يكررون استحضار أسماء وإنجاز الأولين في قرون رحلت. هناك من وقف عند إضافات مفكري أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وخاصة في مصر الملكية. كان الاشتباك المستمر مع الموروث الديني، وخاصة ما يفرضه الدين من قيود على الفكر. في أكثر من موقعة، استطاع المحافظون إلجام أصوات التجديد باسم الدين. لا تزال الانتكاسات تتوالد، وصار التكفير والتخوين وتهمة الرِّدة، الرصاص الذي يُطلق على من يحاول إشعال ضوء العقل لإنارة السبيل نحو النهوض والتقدم.
الجابري خاض المعركة التي عاشها من سبقوه، بسلاح نوعي ثقيل جديد. لم يقترب من الموروث اللاهوتي، إلا بقدر محسوب، فلم يُطلَق عليه رصاص الكلام المقدس، بل احتفى بعمله الباحثون والمثقفون والإعلاميون على امتداد الوطن العربي، وإلى اليوم هو حاضر بقوة.
المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي في عمل غير مسبوق، أعطى سنوات طويلة من عمره وجهده لنقد نقد الجابري للعقل العربي. ساق ما اعتبره هنات منهجية ومرجعية لعمل الجابري، بدايةً مما أورده عن «رسائل إخوان الصفا»، والمراجع التي عاد إليها عن أعمال فلاسفة أوروبيين كبار، والتقسيم الجغرافي للموروث المعرفي العربي. جورج طرابيشي قدم بنقده للنقد الجابري، إضافةً تستحق أن نحتفي بها؛ فهي لم تكن هجاء، بل اعتراف بأهمية ما أنجزه الجابري. وهل يهب إنسان قرابة عشرين سنة من عمره، لدراسة وتقييم عمل يسطره في أربعة مجلدات، عاد فيها إلى مئات المراجع، هل يفعل كل ذلك لنقد عمل لا يستحق؟ كان الاشتباك العلمي الموضوعي بين القامتين العربيتين، نموذجاً أسّس لمدرسة في الاختلاف الإيجابي الذي يضيف ولا يخوّن أو يفسّق أو يكفّر. كسب العقل العربي الكثير مما أنجزه الجابري وطرابيشي.
الأستاذ الدكتور محمد أركون، خاض معركة النقد هو الآخر، ووجّه نقده للعقل الإسلامي، في أعمال عديدة، لكن كتابه «نحو نقد العقل الإسلامي»، توجّه مباشرة إلى بيت النار التراثي. لم يكتفِ بالرحيل في رحاب ما كان في الزمن السحيق، بل استحضر ما مضى ليقرأ ما هو معيش اليوم في دنيا المسلمين، وما ينتجه من تقييم الآخرين للإسلام. لأركون منهجه الخاص في دراسة الموروث بحكم تكوينه منذ الطفولة، إلى دراسته في «السوربون» على أساتذة فرنسيين مستشرقين كبار. تسلح أركون بشجاعة بحثية صدمت البعض، ونالته سهام التخوين والانحراف، من الكتائب المسلحة بالخوف من التفكير.
أعمال الجابري وطرابيشي وأركون الكبيرة، تستحق أن تكون محفلاً متجدداً للدراسة والنقاش، تكون موضوعات لرسائل الماجستير والدكتوراه، وأن تدرس في الجامعات العربية؛ فهي تحفز العقول، وتزيل الركام الذي كدسه الماضي في العقول، وفي الطرق المؤدية للتقدم والنهوض.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نقد ونقد النقد للعقل الإسلامي والعربي نقد ونقد النقد للعقل الإسلامي والعربي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon