بقلم : عبد الرحمن شلقم
يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) يوم الاحتفاء باللغة العربية. كان هذا اليوم سنة 1973 الذي قررت فيه الجمعية العامة للامم المتحدة إدخال العربية ضمن لغات العمل الرسمية بالمنظمة الدولية. جهود من عدة دول عربية تواصلت على مدى سنوات لتحقيق هذا الإنجاز، وعند التصويت على القرار كان حماس الكثير من الدول الإسلامية لا يقل عن حماس الدول العربية، وكذلك عدد من الدول الأخرى من مختلف القارات. اللغات العاملة في الأمم المتحدة فرضها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، الذين صمموا هياكل الأمم المتحدة عبر ميثاقها بإرادتهم. الانجليزية والفرنسية والروسية والصينية زُفّت إلى قاعات المنظمة لحسابات سياسية، أما اللغة الإسبانية فكانت بقوة عدد الدول الناطقة بها. لماذا العربية اقتحمت محفل الأقوياء والكبار والكثرة؟ بدأت الجهود العربية منذ السنوات التي تلت قيام الأمم المتحدة وتحديداً من مطلع خمسينات القرن الماضي لإدخال العربية في أعمال المنظمة، وجرى استخدامها في بعض الوكالات بصور مختلفة. ذاك هو الاحتفاء الرسمي الدولي بلغتنا. نحن العرب كيف نحتفي بلساننا؟ الكلام حروف العقل الناطقة والمكتوبة وصانع الذاكرة التي ترفع الإنسان عبر مسيرة الزمن. لكل لغة هويتها ولكل هوية لغة تصنع الخيوط التي تنظم البشر في تكوين خاص يشدهم إلى وجود مترابط في أرتال الحياة الممتدة بلا حدود عبر الزمان والمكان. يراكمون نتاج فكرهم في حروف تخلق أنفاس الحياة وتلون لوحات حياتهم في خضم الدنيا الواسعة التي تعج بالحياة. اللغة العربية كائن صنعه العرب وصنعهم في عصور مضت وعصر نعيشه إلى اليوم. تتعالى بعض الأصوات التي تنذر بتلاشي اللغة العربية من الوجود. الأقل تشاؤماً يقولون إن لغتنا مهددة بالخروج من حياة الأجيال العربية الجديدة، وإن اللغات الأجنبية صارت جاذبة لهم ويتدافعون على تعلمها، ولا يغيب ترديد الخطر الذي تمثله اللهجات المحلية على اللغة الأم وهي الفصحى. يقولون أيضاً إن لغتنا لم تعد منافسة في مجال العلوم التقنية ولا تواكب التقدم التقني الذي يجتاح العالم. يسوق هؤلاء العديد من الأدلة التي تدعم ما يذهبون إليه.
الواقع يقول غير ذلك. كيف؟ أولاً، إن العرب جميعهم يتحدثون العربية من مشرق العالم العربي إلى مغربه ويكتبون بها. الصلوات الخمس يومياً التي يؤديها المسلمون في كل أصقاع العالم ويقرأون فيها القرآن باللغة الفصحى ومن بينهم ملايين العرب.. وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة تستعمل لغة عربية يفهمها الجمهور الذي تتوجه له كل هذه الوسائل، بل إن الإعلام يستخدم ما يمكن ان نسميه باللغة الثالثة وهي العربية السهلة المبسطة التي يفهمها الجميع وتلك إضافة إلى اللغة وليست انتقاصاً منها. لا بد أن نسلم أن اللغة العربية لها خصوصيتها كأي لغة أخرى، هي لغة معربة وليست مبنية، وهذه الصفة لها ميزاتها وأيضاً تعقيداتها. هي تقدم مساحات هائلة للإبداع والتعبير والدقة، لكن من غير المطلوب من كل المتحدثين بها أن يكونوا علماء في قواعد نحوها وصرفها، وتسري هذه القاعدة على كل اللغات، ففي كل العالم هناك قلة حتى داخل النخب التي تلم بقواعد اللغة بشكل واسع ودقيق. واللهجات تتعدد وتختلف في كل الألسنة البشرية التي يتحدثون بها. في الولايات المتحدة هناك عشرات اللهجات، وفي بريطانيا وفرنسا وأميركا اللاتينية الناطقة بالإسبانية والصين وفي إيطاليا وغيرها.
اللغة العربية على مر العصور عاش لها صفوة من العلماء الذين وضعوا لها الأسس التي جعلت منها كياناً صلباً له القدرة على الحياة في خضم التغييرات التي ترافق كل حلقات مسيرة الناس.
الفراهيدي وابن جني وسيبويه وأبو عمرو بن العلاء وغيرهم كانوا العقول التي أعطت للعربية القوة الصلبة الراسخة على مر الزمان. الشعر العربي، ديوان العرب كان ولايزال مخزن القيم وقوة اللغة وجمالها وبيتا للحكمة. يكفينا ان الدارسين والباحثين في الشعر الجاهلي والعباسي يزداد عددهم كل يوم وفي جميع الأقطار العربية، بل إن الكثير من غير العرب قاموا بدراسات معروفة لفطاحل الشعر العربي.
اما الحديث عن خطر اللهجات المحلية على اللغة العربية، فذلك يحتاج إلى الوقوف عنده. اللهجات هي الكلام الذي يستعمله الناس في حياتهم اليومية التي تختلف أنماطها من مكان إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى. وهذا الواقع المختلف يبدع حاجته للتعبير والتواصل بين الناس، لكنه يغرف من منبع واحد هو اللغة الأصل. الكثير من الكلمات التي نحسبها مهجورة نجدها مبثوثة في اللهجات المحلية ببعض الأقطار. والفن وتحديداً الغناء الذي نشاهده ونسمعه اليوم باللهجات المحلية هو تعبير وجداني بكلمات متداولة في بلد ما لكنه يعبر حدودها إلى البلدان الأخرى، وهذا رابط إضافي للذائقة العربية العامة. نجد في الكثير من الأغاني حالات كان الخيال فيها فصيحاً والتعبير شعبياً أو عامياً. نجد هذا عند الشاعر الكبير الذي أبدع بالفصحى والعامية الأستاذ أحمد رامي، يتجلى ذلك في قصيدة، ياللي كان يجشيك أنيني وغنتها أم كلثوم حيث يقول:
عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك
وتجيب خضوعي منين ولوعتي في هواك
فضلت أعيش في قلوب الناس
وكل عاشق قلبي معاه.. شربوا الهوى وفاتوا لي الكاس من غير نديم أشرب واياه
الصور كانت بلغة فصيحة في خيال الشاعر، لكنه عبر عنها بالعامية. وهذا يتكرر عند شعراء غنائيين في كل البلدان العربية.
يتحدث البعض عن غزو الكلمات الأجنبية للعربية وخاصة تلك التي تحمل أسماء مخترعات تقنية. نسأل: ما هو البأس في ذلك؟ اللغات الحية هي تلك القادرة على الأخذ والعطاء. هذا نجده في كل اللغات التي تعيش في خضم الحياة. اللغات الأوروبية والصينية وغيرها. أما توجه الشباب العربي لتعلم اللغات الأجنبية فذاك إضافة للغة وليس طرحاً من قوتها ووجودها في واقع الحياة. ملكة اللغة تقوى عند تعلم أخرى، الواحدة تحفز الأخرى وتخلق حالة من تنشيط العقل اللغوي عند الانسان.
اللغة العربية كيان مقاوم، قرون عديدة عانى فيها الإنسان العربي من الأمية. عاش الكثير من العرب وماتوا ولم يحملوا كتاباً في حياتهم، أكثر من خمسة قرون تحت الحكم التركي همشت فيها العربية، ثم سنوات الاستعمار الأوروبي الذي قاتل اللغة لأنه رأى فيها سلاحاً للمقاومة، لكن رغم كل تلك المحن ازدادت اللغة العربية قوة.
نعود الى السؤال، كيف نحتفي بيوم لغتنا؟ بلقاءات ثقافية وندوات للحديث عن جماليات هذه اللغة. البلاغة بكل فصوصها، مختارات من الشعر البديع الخالد. تقريب وتبسيط قواعد النحو والصرف للشباب وخاصة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. أليس بالإمكان أن نخصص شهراً كاملاً في كل سنة للاحتفاء باللغة العربية بدلاً من يوم واحد؟ اللغة صوت العقل والقلب، هي تحتفي بنا في كل لحظة، تستحق أن نفرح بها ونحتفل شهراً على الأقل.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع