بقلم : عبد الرحمن شلقم
الرئيس التونسي يخوض حرباً معاركها كرٌّ متحركٌ على جبهات (الوقت). عندما أعلن الرئيس قيس سعيد يوم 25 يوليو (تموز) تعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن جميع أعضائه وتوليه شخصياً مهام النائب العام، استند إلى الفصل ثمانين من الدستور الذي يخول لرئيس الجمهورية في حالة مواجهة البلاد لخطر داهم، اتخاذ إجراءات استثنائية.
كان رد الفعل الشعبي هو التأييد الكبير لخطوات الرئيس وكان الدافع الأكبر لهذا التأييد له، حالة المعاناة التي شهدتها البلاد من تفشي وباء «كورونا»، وما ألحقته بالبلاد من شلل بسبب توقف السياحة التي تشكل مصدراً مهماً للاقتصاد التونسي. خاض الرئيس معركته الأولى ضد البرلمان ورموزه ووجه تهماً بالفساد إلى ستين عضواً من أعضائه، وحرَّك آليات القضاء في ميدان معركته الثانية ومنع شخصيات سياسية ورجال أعمال من السفر بتهمة الفساد، ووضع آخرين تحت الإقامة المنزلية رافعاً في وجوههم ملفات بها ما قيل إنها وثائق ناطقة بالتواريخ والوقائع والأسماء. المعركة الأولى للرئيس ضد «كورونا» حقق فيه نصراً محدوداً، فما زال الوباء يفعل فعله في الناس وسير الحياة اليومية وارتدادات ذلك على الوضع الاقتصادي المأزوم. المدد الخارجي في معركتي «كورونا» والاقتصاد، كان له صدى ملموس في الشارع التونسي وكان الفضل فيه لمبادرات الرئيس الداخلية والخارجية. تكتيك حرب الرئيس في معاركه، له تموجات في بحيرة (الوقت). هو يستخدم نيران أسلحته ضد أعداء يسمي تموضعهم ولا ينطق أسماءهم ويشفّر ذخيرته في معركته السياسية. لم يذكر كلمة «النهضة» في خطاباته الشعبوية النارية ولم يذكر اسم شخص بعينه عند حديثه عن الفساد. تصريحات حزب «النهضة» منذ اليوم الأول لإعلان الرئيس عن استخدام الفصل الثمانين من الدستور، أكدت أنها المواجه الأول للرئيس قيس سعيد. الاتحاد التونسي للشغل، الجسم النقابي الأهم في البلاد، كما يقول المثل التونسي والليبي «يأكل ويقيس»، فهو لا يخفي امتعاضه من الوضع الراهن في تونس ويدرك حجم المعاناة الواسعة التي تجثم فوق البلاد، ولكنه في ذات الوقت لا يصطف إلى جانب أي طرف في المعركة متعددة الميادين والقيادات. الاتحاد التونسي للشغل رفع شعار «الحوار الوطني الشامل» الذي عدّه بعض السياسيين والإعلاميين شعاراً مراوغاً، ولم يُعِره الرئيس قيس سعيد اهتماماً.
بعد إعفاء قيس سعيد لرئيس الوزراء هشام المشيشي ضمن إجراءاته لمواجهة ما عدّه خطراً داهماً يواجه البلاد، تعالت الأصوات داخل تونس تطالب بالإسراع في تسمية رئيس للحكومة، وتوالت الرسائل من الخارج تؤكد ذات المطلب، لكن الرئيس لم يرَ الأمر قضية مستعجلة وفضَّل أن يبقى منفرداً في المشهد الوطني بكل تجلياته، وملأ الشارع بوجوده وخاض معركة ضد الاحتكار ورفع الأسعار بشعارات أخلاقية ممزوجة بخطاب وطني يزمجر بذخيرة تعبوية بلغة عربية فصحى. حبس الناس أنفاسهم ينتظرون خطَّ التاريخ وهو نهاية الشهر الذي يمثل خندق (الوقت) الاستثنائي الذي بنى عليه الرئيس قراره أو بيانه الأول يوم الخامس والعشرين من يوليو. الرئيس ألقم الجميع بيانه الثاني عندما أعلن استمرار بيانه الأول -حتى إشعار آخر. عنوان جديد في معركة حرب عمرها شهر متجدد.
على الضفة الأخرى من ميدان المواجهة السياسية، تتموضع حركة «النهضة» التي واجهت البيان الأول للرئيس بحرب شاملة دستورياً وإعلامياً وشعبياً. لكنها مع تزايد روافد التأييد لنهر التصعيد الرئاسي، اضطرت حركة «النهضة» إلى أن تتجه إلى الانحناء السياسي النوعي الذي يمكّنها من السباحة العكسية في أمواج نهر مجهول الأعماق والطمي، فقامت بهجمة مرتدة وقررت حل مجلسها التنفيذي لتفتح اللعب في ميدان سياسي مفخخ. شخصية رئيس الوزراء المنتظر ستفكّ شفرة المسكوت عنه في الإشعار الآخر. تقديم الرئيس لوجهه الجديد بتحركاته الشعبوية وهو يجوب شوارع المدن التونسية ويتنقل بين المتاجر والمصانع ومن حوله الحشود من الجماهير، توحي بأنه سيختار وزيراً أول وليس رئيساً للوزراء، بما يعني أن قيس سعيد سيتجه عملياً نحو النظام الرئاسي الكامل، يكون هو مَن يمتلك القرار فيه والحكومة مجرد أداة لتنفيذ ما يريد. هل سيتجه الرئيس إلى تعديل الدستور الحاليّ أم سيقوم بصياغة دستور جديد لا يختلف عن دستور 1959 الذي يكرس الرئيس زعيماً أوحد للبلاد مثلما كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة؟ رَشَحَ مؤخراً خبر في وسائل الإعلام التونسية يقول إن خطة لاغتيال الرئيس قيس سعيد قد تم إحباطها ولم يصدر أي إعلان رسمي يؤكد ذلك الخبر، وإن لمَّح الرئيس في أحد خطاباته إلى ذلك بلغة زعامية بطولية مفعمة بروح الإيمان الديني والتحدي الوطني. التاريخ العربي الحديث بتفكيك محطاته، يخبرنا بأن نشر أنباء عن محاولات الاغتيال التي يتعرض لها السياسيون من مقومات بناء الزعامة الوطنية والرداء المقدس الذي يسبغ عليهم هالة العظمة والبطولة.
الإشعار الآخر أو صندوق الوقت التونسي، يجعل كل الاحتمالات واردة، والأخبار التي تَرْشَح من الروافد الإعلامية قابلة للتصديق وعكسه بما فيها محاولة اغتيال الرئيس قيس سعيد التي أعلن عنها بنفسه بلغة لها ذخيرة كلثومية، نسبة إلى عمرو بن كلثوم:
بغاة ظالمين وما ظَلمنا
ولكنَّا سنبدأُ ظالمينا
السؤال الذي يطفو فوق كل مجريات الأحداث في تونس هو: إلى أين سيمضي الرئيس قيس سعيّد في حلقات معاركه الساخنة؟ ومن الأعداء الذين يعد لهم عدّته؟ وما الأهداف التي يحرك قواته نحوها ليضربها؟ وما قوس الوقت الذي يفعِّلُ فيه إشعاره الآخر؟ على كلٍّ، هناك خصم صامت للرئيس قيس سعيد هو رفعه سقف الأمل في خطاباته التي يتابعها أغلب التونسيين ويَعِدهم فيها بحلول سريعة لكل مشكلاتهم، ولكن الواقع يؤكد أن تونس تحتاج إلى وقت طويل، وجهد نوعي مكثف وهوية اقتصادية شاملة جديدة توظِّف قدراتها البشرية الهائلة وموقعها الجغرافي الممتاز ومجتمعها المدني المتطور وفي ذات الوقت المحافظة على ما حققته من نمو ديمقراطي يكفل حرية الرأي والمشاركة السياسية الواسعة وسيادة القانون والقضاء على الفساد بما يشجع الاستثمار الخارجي ويوفر فرص العمل للشباب ويفتح أبواب التصدير إلى الأسواق الخارجية.
تونس تنتظر أكثر من إشعار آخر، بمعنى إشعارات أُخر.