توقيت القاهرة المحلي 08:26:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

جلطات التاريخ

  مصر اليوم -

جلطات التاريخ

بقلم : عبد الرحمن شلقم

العقد الثالث من هذا القرن زمن يهتز فيه العالم، وتعلوه سحابات الدم وأصوات العداوة، ورعشات الخوف العابرة للقارات. ما يتدفق من تحليلات وتوقعات عما يحمله القادم من الأيام، من تهديد للطبيعة، وما تعيشه بلدان كثيرة من جفاف وفيضانات، يجعل المستقبل طوفان خوف يحاصر الآمال، ويرفع دقات التوجُّس المرعب. الحروب لعنة يحملها الإنسان في كيانه المركب. تملأ دنيا اليوم الأخبار، عنفها يرتفع ويتسع. السلاح صار من المخلوقات التي يبدعها علماء الفناء. أعداد القتلى والجرحى التي تتسابق وسائل الإعلام على بثها، تدخل البيوت مع أخبار المباريات الرياضية، ومسابقات ملكات الجمال، وشطحات الموضة. القتل تحاصرنا أدواته التي تنبت كل يوم في العقول، وتُزف إلى المصانع. الطائرات المسيرة كتلة بكماء، تحمل الموت الغبي الذي ترسله أيدٍ وعقول تحتفي بمهرجانات الموت. في غزة يتابع العالم مهرجان إبادة لمئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، وزمن الدمار يهوي على الحجر والشجر، والمستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات. الجوع والأمراض والعطش سلاح إبادة شامل، وكأن شيئاً لم يكن. في أوكرانيا تلتهم الصواريخ والطائرات المسيرة أرواح وأجساد البشر، والتهديد بتوسيع الحرب يلامس حافة التلويح بالسلاح النووي. الحروب الأهلية التي تعصف ببلدان عديدة، والأعمال الإرهابية، والجرائم الجماعية والفردية، وأعمال العنف ضد النساء. الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، دفعت إلى الدنيا العضلات الحديدية، وأكملت سيطرة البشر على الطبيعة، وتقهقرت المسافات، وولد إنسان آخر، له من الأحلام والآمال ما يبشر بولادة بشر آخرين يقدسون الحياة الجديدة، ويركضون نحو تأسيس عالم سلام ورفاهية، لكن العنف الأناني كان أقوى. ظهر الإنسان الاستعماري الذي يُعلي المصالح الذاتية على الحياة. الحروب تنوعت، من أهلية إلى إقليمية ودولية، والدم صار وقود آلة القوة والسيطرة. أصبح هناك مَن يعشق الموت، لأن الحروب تحقّق له ما يحلم به من سيطرة مريضة ومصالح أنانية.

الفيلسوف الألماني إيريك فروم، الذي جمع بين التاريخ والفلسفة وعلم النفس، وكان من أبرز مفكري مدرسة فرانكفورت، غاص في أعماق الإنسان دراسة وتحليلاً. فكك رحلة الإنسان في محيطات الزمان وبحوره وأنهاره وفوق سطح الحياة بكل تجلياتها وتقلباتها. في كتابه: «جوهر الإنسان»، وقف إيريك فروم عند محطات في التاريخ، ظهرت فيها خبايا المكونات التي تكشف جوهر الإنسان، وعلاقة القوة بالموت والحياة.

النيكروفيليا تعني حب الموت، مقابل البيوفيليا، وتعني حب الحياة. وقف فروم عند خطاب لجنرال إسباني أثناء الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي. محبو الموت كان لهم مريدون متعصبون. كان الحب الشديد للموت يجذب الأتباع الذين يركضون وراء قادتهم بعيون عمياء، وعقول متحجرة. النيكروفيليون يحبون كل شيء لا ينمو، ولا حياة فيه. في وقفة مكثفة الدلالة، أورد المؤلف عبارات للفيلسوف الإسباني أونا مونو. كانت المناسبة خطاباً ألقاه الجنرال ميلان أستراي في جامعة سالامانكا الإسبانية. كان شعار الجنرال المفضل - يحيا الموت - وقد هتف به أحد أتباعه. وعندما انتهى الجنرال من خطابه، نهض أونا مونو وقال: «لقد سمعت بكاء نيكروفيلياً أحمق؛ يحيا الموت»!! هنا وقف الجنرال ميلان أستراي وصرخ: «يسقط العقل. وردد هتاف جنوده: يحيا الموت».

ثنائية الحياة والموت؛ ذاك السر المتفجر الرهيب الذي يعيش في صيرورة التاريخ المتحرك. البناء والتشييد والصناعة، ذلك أمر يرتفع في المعمورة، لكن صنوه الذي يحذوه من دون توقف هو الاختراع المتنوِّع لآلات القتل الفردي والجماعي. حب القتل هو حب الموت الكامن في النفس البشرية. النيكروفيليا هي حب القوة التي تحيل الإنسان إلى جثة، وهي تعتقد أن القتل هو التعبير المطلق على القوة. والشخص النيكروفيلي هو المنجذب نحو كل ما ليس حياً، وكل ما هو ميت؛ الجثث، التحلُّل، القذارة. النيكروفيليون يعشقون الحديث عن المرض، عن الدفن والموت، وهم يشعرون بالحياة والسعادة عند الحديث عن الموت.

يقول الفيلسوف إيريك فروم إن أدولف هتلر مثال واضح على النمط النيكروفيلي الكامل؛ لقد كان مفتوناً بالتدمير، ورائحة الموت، وكأنها لذَّة بالنسبة إليه. لقد كان يعشق تدمير الشعب الألماني وتدمير نفسه ومَن حوله. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، رأى جندي هتلر واقفاً في حالة نشوة، محدقاً في جثة متعفنة، ولا يريد الابتعاد عنها.

جيم جونز الذي قاد أكبر عملية انتحار جماعي في التاريخ، وذلك سنة 1978، في معبد الشعب بغويانا، وقام قرابة ألف شخص بتجرع السم، في حفل انتحار جماعي.

تلك التشوهات الرهيبة هي جلطات قاتلة في جسد الإنسانية، عبر صيرورة التاريخ الطويلة. هل ستزول جلطة «يحيا الموت»؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جلطات التاريخ جلطات التاريخ



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon