توقيت القاهرة المحلي 19:09:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من هو عدو العرب؟

  مصر اليوم -

من هو عدو العرب

بقلم : عبد الرحمن شلقم

في سنوات حرب الاستنزاف، بين مصر وإسرائيل، كنت أسكن في شارع المساحة بالقاهرة. قصف جوي إسرائيلي وترحيل لسكان منطقة القناة، وانتظار لقادم لا نعلمه. صديقي وزميلي في قسم الصحافة بجامعة القاهرة، الذي صار من الشعراء المرموقين، حلمي سالم كان من المطلوبين للأمن المصري. قال لي يا عزيزي، الأمن يلاحقني والسجن ينتظرني، ما رأيك؟ قلت له أهلاً بك في بيتي، وزميلي علي المنتصر الذي يسكن معي سيرحّب بك، ونحن زملاء. قال حلمي: سليمان الحكيم هو أيضاً ملاحق، قلت له ندبر له مهرباً في الإسكندرية. سقتُ هذه المقدمة وأنا وضعتُ عنواناً لمقالتي عن أم كلثوم. أكتب الآن وكأنَّ الأيام دائرة ألعاب أطفال، تدور حول نفسها دون أن تقف. كنت أجلس في شقتي بشارع المساحة، ومعي صديقي الشاعر الواعد حلمي سالم، وزميلي الليبي في الشقة، المرحوم الدكتور علي المنتصر كريم فرفر، المتفوق دائماً، نستمع لإذاعة أم كلثوم. كانت الأغنية المذاعة، «يا للي كان يشجيك أنيني». جاءنا ضيف ليبي سبقنا في التخرج من كلية الآداب. سمع الأغنية فقال: تستمعون إلى صوت الغواية والبذاءة؟ قلت له: مَن؟ قال أم كلثوم. نطق اسمها بلهجة مصرية بسوء نية متعمدة. قال: أوم كول ثوم. واندفع في هجوم كاسح على السيدة أم كلثوم. ألقى الزائر محاضرة بصوت خطابي. حمَّل فيها كوكب الشرق، مسؤولية كل ما حلَّ بالعرب من هزائم عسكرية، وتخلُّف في جميع الميادين. شعرت أنا وزميلي علي المنتصر، بالخجل والاستغراب، وصفعتنا صدمة المفاجأة الغريبة العجيبة، وغرقنا في كراسينا من الخجل، على رأي الشاعر محمود درويش. بدأ الزميل حلمي سالم يضحك بصوت عالٍ، ويداعب شعر رأسه وينظر إلى الخطيب المجنزر، المتدفق في هجومه البذيء الكاسح على أم كلثوم. كانت هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها مثل هذا الكلام من شخص، كنا نعدّه من المثقفين المرموقين. أُغلق علينا كما تقول العرب، عندما يتحجّر الصوت في الفم، ولم نستطع الخلاص السريع من ثقل الصدمة. أم كلثوم العدو الأول والأكبر للعرب، وهي السبب في كل ما تعانيه الأمة العربية، من هزائم وتخلَّف!

علي المنتصر فرفر - رحمه الله - كان شخصية دمثة وخجولة. ظلَّ ينظر إلى الضيف صامتاً. حلمي سالم بخفة الدم المصرية، ومراعاة لسن الضيف، وإدراكه أنَّه أيضاً ضيف عندنا، مختبئاً عن الأمن المصري، سارع إلى النكات والقفشات المصرية، وطرائف الأقوال والتعليقات التي قالها الأدباء والسياسيون المصريون القدامى. مرَّت الجلسة ومرَّت الأيام. بعد سنوات طويلة، رحلت إلى روما سفيراً لليبيا. هناك تعرفت على سفير ألمانيا الشرقية. كان شخصية موسوعية في الفن، عاشقاً متيماً بالموسيقار فاغنر. لا يمل الحديث عن إبداعه وتاريخه، وعلاقته العجيبة مع الفيلسوف نيتشه. من صداقة حميمية، إلى عداء وكراهية. قيل الكثير عن تأثير كل من فاغنر ونيتشه على هتلر، وزرع بذور النازية. حدثت السفير كثيراً عن السيدة أم كلثوم، وأهديته بعض أسطواناتها، وكان من المحبين للعرب، وملمّاً بالكثير من حضارتهم، فناً وشعراً وتاريخاً. في أوروبا كانت النهضة شاملة، فلسفة وفناً وأدباً واقتصاداً وسياسة.

بغداد العباسية كانت منارة الدنيا في كل شيء. أخذت كل ما استطاعت من العلوم والفن والفلسفة من الإغريق والفرس والروم، وتحوَّلت معملاً للترجمة والتأليف، وقدِم إليها العلماء، وطلبة العلم من كل مكان. عندما طالتها ضربات الظلام، واستحكمت حلقات الانغلاق، وسقطت العقول في حفر رماد الماضي، واستفحلت الطائفية المذهبية والعرقية، زحف على نور بغداد، الهمج المسلحون، وجفّت ينابيع الإبداع والقوة، وانطفأ النور وحلَّ الظلام.

المبشرون بالظلام لا يغيبون عن أي زمان أو مكان. قد تختلف ملابسهم، وما يضعونه فوق رؤوسهم. ذخيرتهم الجهل الذي يتحول رصاصاً يطلقونه آناء الليل، وفي رابعة النهار، على أي بقعة نور ورافعة للنهضة والتقدم. الحملة ضد الفن والإبداع والاجتهاد، في منطقتنا، لم تتوقف منذ عقود بل قرون. الذين وصفوا أم كلثوم، بالثوم، هم أئمة الجهل والتجهيل، يقدسون أوثان الظلام. في أوروبا ازدهرت الفلسفة والأدب والصناعة والعلم، على إيقاع السمفونيات والباليه والأوبرا، وما زال فيردي وباخ وفاغنر وموتسارت وشوبرت وغيرهم، يصدحون في أرجاء دنيا الحياة الفرحة. أم كلثوم كان لها دور غير محدود، في تعميق التواصل العربي لزمن طويل. ساهمت في ترقية الذائقة الفنية. قال الفيلسوف والروائي والمفكر الإيطالي، اومبيرتو ايكو: إنَّ الفن ووسائل الإعلام الإيطالية، قامت بدور في توحيد إيطاليا، أكبر ممَّا قام به كل من غاريبالدي وماتزيني. أم كلثوم شدَّت أغلب الناطقين باللغة العربية. كانت سهراتها الشهرية، الحدث الكبير الذي ينتظره العرب من المحيط إلى الخليج. يتجمعون حول جهاز الراديو يستمتعون بكلمات أحمد رامي، وعبد الوهاب محمد، وبيرم التونسي، وأحمد شوقي، وأحمد فتحي وعبد الله الفيصل، وغيرهم من كبار الشعراء العرب. الملحنون الكبار الذين جعلوا الكلمات في صوت أم كلثوم، كوناً من الإبداع الأسطوري، أضاء أنوار الفرح في القلوب. كاريزما الصوت الفريد القائد، والحضور السحري الوهاج، أهدانا إبداع رياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد، وبليغ حمدي ومحمد الموجي. أم كلثوم كانت أيضاً قوة مقاومة ضد العدو، تنقلت بين الأقطار العربية وأوروبا تغني لتقدم كل ما تحققه من أغانيها للجيش المصري.

شاهدت مؤخراً تسجيلاً مرئياً لشخص اسمه عبد الله النفيسي، يصف السيدة أم كلثوم بغرزة حشيش، خدّرت المصريين ومعهم الكثير من العرب وتسبّبت في الهزائم والتخلف! تساءلت في نفسي، هل ما شاهدته وسمعته يصدر عن شخص يفترض أنه على قدر من العلم، ويتحدث اللغة العربية وله قدر من الفهم؟ هل عندما غنّت أم كلثوم رائعتي أمير الشعراء أحمد شوقي «نهج البردة» و«سلوا قلبي»، كانت تخدّر المسلمين، أم تشدو بمدح سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم؟ وعندما غنّت رائعة حافظ إبراهيم «مصر تتحدث عن نفسها»، كانت تشحذ الروح الوطنية المصرية، وتسقي جنان مجدها التليد الخالد؟

لقد شخَّص الشاعر المبدع احمد رامي، الذي أهداها عبقرية إبداعه، صوتها في قصيدته التي رثاها فيها وقال:

لحن يدب إلى الأسماع يبهرها

بما حوى من جمال في تغنيها

ومنطقاً ساحراً تسري هواتفه

إلى قلوب محبيها فتسبيها

الظلام حفرة الجهل، والعبقرية والإبداع يمتد عبر الزمن نوراً يضيء، وإن لم يره الذين يعبدون الظلام. الجهل هو عدو العرب.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من هو عدو العرب من هو عدو العرب



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 18:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية
  مصر اليوم - نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon