توقيت القاهرة المحلي 20:07:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صدى الزمان المائي

  مصر اليوم -

صدى الزمان المائي

بقلم : عبد الرحمن شلقم

سنة 1982 كنت وزيراً للإعلام في ليبيا. زارنا الإذاعي المعروف في «صوت العرب» في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، أحمد سعيد. أقام عدة أيام في طرابلس وقدم مشروعاً لإطلاق إذاعة عربية تكون صوتاً عربياً للتنمية والتطور العلمي والثقافي والاقتصادي وتتواصل مع العلماء والخبراء العرب بالخارج. تحدثنا طويلاً عن المستقبل العربي والأوضاع الدولية. لم يغب الماضي العربي بكل جوانبه بما فيه من الإنجازات والانكسارات، وبالطبع كانت مسيرته في إذاعة «صوت العرب» حاضرة دائماً. أحداث حرب سنة 1967 والهزيمة الكارثة التي حلت بمصر والأمة العربية، وكذلك الوحدة المصرية - السورية التي انتهت بالانفصال، وأحداث العراق واليمن، والثورة الجزائرية، والعلاقات المصرية - السوفياتية وبناء السد العالي، وغيرها من الأمور التي شهدتها المنطقة العربية في تلك الحقبة من الزمن. كان إيمانه بالرئيس جمال عبد الناصر وزعامته ودوره الوطني والقومي حياً بل مشتعلاً عندما يتحدث عن مجمل تلك المرحلة، لكنه عندما يقف عند نكسة يونيو (حزيران)، تسري في روحه وصوته رعشة تهزُّ أنفاسه وينخفض صوته. كنتُ متشوقاً بقوة لمعرفة تفاصيل ما حدث في الأيام التي سبقت الحرب بعد قرار مصر إغلاق مضائق تيران، والمؤتمر الصحافي العالمي الذي عقده الرئيس عبد الناصر وأعلن فيه استعداد مصر للحرب مع إسرائيل وبداية التصعيد العسكري من الطرفين المصري والإسرائيلي، وموقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ويوثانت، الأمين العام للأمم المتحدة.
دار الحديث مطولاً حول الأيام التي سبقت يوم الخامس من يونيو وحملة تعبئة الرأي العام العربي بل والعالمي للمعركة الفاصلة القادمة مع العدو الإسرائيلي والنصر المؤكد الذي كان أحمد سعيد هو الصوت المجلجل الذي يلهج به نهاراً وليلاً. قال أحمد سعيد إنه كان واثقاً إلى أبعد الحدود بحتمية النصر ولم يدُر بخلده شك في أن الجيش المصري يمتلك القدرة الضاربة التي ستحقق النصر في أيام قليلة ويتم تحرير فلسطين بقوة التحالف المصري - السوري والأردني وبدعم كل العرب. بدأت المعركة صباح يوم الخامس من يونيو، وبدأت البلاغات العسكرية تصل إليه من القيادة العسكرية المصرية التي تؤكد تقدم القوات المصرية السريع داخل أرض فلسطين، وإسقاط العشرات من الطائرات الإسرائيلية. يستمر الإذاعي التاريخي أحمد سعيد في سرد ما كان في ذلك الصباح، حيث كان الجميع في إذاعة «صوت العرب» يغمرهم فرح جعل من تلك الساعات عيداً لا يمكن وصفه. الجميع مبتهج وينتظر البلاغ التاريخي الأعظم الذي سيذاع من داخل تل أبيب. الساعة الحادية عشرة وخمس وخمسين دقيقة، علم من أحد الضباط المصريين وبصورة شخصية وسرّية أن سلاح الطيران المصري قد جرى تدميره والقوات الإسرائيلية تتقدم في سيناء من دون مقاومة وأن الجيش المصري ينسحب نحو قناة السويس. استعمل أحمد سعيد كلمة «يهرول» وليس كلمة «ينسحب» نقلاً عن الضابط الذي اتصل به وأخبره بحقيقة ما يحدث. سرد الإذاعي الناصري الساعات بين برزخ الحلم المدرّع والانكسار الرمادي الذي ابتلع فيه الموت ألسنة الحياة الصوتية. قال: «كنت أريد أن أصرخ وأبكي، لكنّ الهزيمة سَرَت في كل شيء؛ الأجساد والأصوات». ويستمر: «اتصلنا بالقيادة وسألناها: ماذا نقول؟ كان الرد: استمروا في التعبئة كما كنتم. وذلك ما فعلناه. برروا قولهم بالحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية». سألت السيد أحمد سعيد: بعد أن أيقنتم بالانسحاب الكبير من الجبهة وحلول الهزيمة ماذا فعلت؟ قال: «حاولت الهرولة الصغيرة إلى الإحباط الذي زعزع ذاتي الحزينة بعد أن أدركت أن الانسحاب الكبير قد وقع». الاستمرار في القول للجماهير المصرية والعربية إن النصر قريب رغم معرفته أن الهزيمة قد حلّت.
اليوم نرى أكثر من هروب صغير، بل أصغر من صغير، على وسائل الإعلام العربية المختلفة. هناك من يصرخ على الصفحات المكتوبة، أو على فضاء تلفزيوني ويكرر بلا توقف أن ما يحدث من حرب في أوكرانيا هو بداية الطريق لتحرير فلسطين وهزيمة حلف الناتو، وأن الولايات المتحدة سوف تتفكك قريباً، وسيسود النفود الروسي في العالم وتصبح إيران القوة الضاربة في الدنيا. الرديف السحري لهذا الصراخ هو الشيخ المعمم الذي يفكك أرقام القرآن ويبشّر المؤمنين بأن فلسطين ستتحرر هذا العام، ويطوف في المصحف الشريف، يجمع آيات ويُخصعها للضرب والتقسيم والجمع والطرح ويُسقطها على أرقام السنوات الميلادية، ويستحضر نبوءة عجوز إسرائيلية تعزز ما ذهب إليه هذا الشيخ.
الغريب، وأكرر الغريب، أن الملايين يتدافعون إلى الهروب في فجاج الأوهام التي ينفث رذاذها في أصوات أبدعت تقنية صناعة قوارب الوهم التي تحمل الهاربين الصغار إلى بحيرات التيه الآسن، فينداح الآتي في مستنقعات ماضٍ هرب إلى سرداب التخلف والجهل المقدس الذي يلتفّ على عنق الفعل والعقل.
أحمد سعيد الذي صرخ من استوديوهات «صوت العرب»: «لقد سقط جبل المكبر يا أبناء اليهودية»، كان نصيبه من الجبل حجارة الحسرة والحزن الصاعق. وصلاح جاهين الذي سال حبر شِعره على إيقاع سحابات تعبر سماء الكلام المُغنَّى وقال: «ملايين الشعب تدق الكعب تقول كلنا جاهزين، وقول ما بدالك إحنا رجالك ودراعك اليمين» كان نصيبه الكآبة والحزن الخانق. وكمال الطويل الذي نمنم رقصة أغاني الحلم بموسيقى كانت تحدو الوهم الكبير وصدح بها عبد الحليم حافظ، لا أعلم ماذا كان نصيبه. في إسرائيل شُكلت «لجنة أغرانات» للتحقيق فيما حدث في معركة أكتوبر (تشرين الأول) التي حققت مصر فيها نصراً على الجيش الإسرائيلي، ولكن لم يتم تحقيقٌ في مصر عمّا حدث في هزيمة يونيو وبشكل موضوعي وجاد، ولكن في عالم الهروب نحو الوهم الكبير والصغير لا أحد يسأل، وفي كل موسم يعود صوت أكثر من أحمد سعيد، ولكن للأسف بتقنية مرئية يرتفع فيها الصوت من بعيد أو قريب تجعل من اللوحات المرئية سوقاً فسيحة للعبث الرخيص.
العقول التي يرافقها غبار الثمن يبيع لها أكياساً يملؤها رماد الهروب إلى زمن مات وليست فيه سوى بقايا أصوات لها حشرجة في حلق لا شيء فيه سوى خبطات وهم يقاوم الهروب من دون أن يدري أنه هارب إلى جوف تيبّست فيه أنفاس الحياة وصارت الآذان غضروفاً يغطيه صدى زمن الرماد الذي تيبّس في حناجر لا توقظها نواقيس الحراك الإنساني الذي يعانق الحقائق ويزفها إلى الناس، لأنها رافعة النهضة والأضواء التي تنير السبل نحو الانتصارات في السلم والبناء وفي ساحة المواجهات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صدى الزمان المائي صدى الزمان المائي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon