توقيت القاهرة المحلي 20:07:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رحلة المعنى في النص

  مصر اليوم -

رحلة المعنى في النص

بقلم : عبد الرحمن شلقم

نحن في حقبة أزمات تتحرَّك بين السخونة والغليان. العنف الدموي بفعل فرادى وجماعات، كل ذلك له دافع ظاهر أو غامض. إنسان يقتل آخر ويعتقد أنه بذلك يأتي بعمل وطني أو مقدس ليس به جرم أو حتى نقيصة. الحروب التي تزفها وسائل الإعلام إلى البيوت في صور حيَّة ينقلها مراسلون من وسط ميادين الصدام ولا تخلو كلماتهم من دوافع سياسية موجهة من طرف مالكي الوسيلة الإعلامية. بذور العنف تنبت في تربة العقول، والمفارقة أن تلك البذور، تتخلَّق في أرحام العقول التي هي مزرعة الإنسان منذ القدم.
الأفكار التي أبدعها البشر مكتوبة بكل لغات الدنيا، هي كما قال العلماء لا تُخلق من العدم ولا تفنى، مثلها مثل المادة. عندما كان العلم محدوداً، والأمية قوة ظلام تتحكم في البشر، تسلطت النصوص المكتوبة وحتى تلك الشفاهية في الخطب والأقوال المصبوبة في أكياس الرؤوس، وكان المتلقي الأميّ البسيط آلة من اللحم والعظام الطيّعة القابلة للنصوص المكتوبة والمستسلمة للأقوال المزيّنة بالبلاغة شعراً أو نثراً. رحلة الإنسان عبر العصور، كانت معارك بين العقل والطبيعة بكل ما فيها من تمردات وآفات وهزَّات زلازل وبراكين وعواصف، وكذلك جنون القوة الطاغية بين البشر، التي تلد الظلم والتسلط والقهر، في تفاعل القوة مع الضعف.
العقل هو القوة المقاومة أبداً. كل خطوة من خطوات الإنسان نحو دنيا جديدة، تتَّسع فيها مساحة الحرية من سطوة الأقوياء وقهر الطبيعة، يصنع العقل من دون توقف قدراته التي يقتحم بها أسوار ما تراكم وتصلب من زمن الخرافة والأسطورة، ويقرع بمطرقة الفكر حجارة الموروث البائد. نشبت معارك فكرية كثيرة في حرب طويلة حول ما هو مكتوب، ولْنَقُلْ «النص».
الفلسفة والأديان المختلفة والإبداع الشعري والروائي، وكل ما ولّدته القرون من نصوص وأقوال، اجتهد المفكرون والباحثون والنقاد لإيجاد ضوءٍ يقود إلى رؤية تمكّن القارئ من العبور إلى كنه النصوص المكتوبة في كل المجالات حتى يكون مشاركاً فيها، وليس مستسلماً قابلاً لها.
المبدعون والمفكرون وفي مقدمتهم الفلاسفة يزرعون بذور التقدم في حقول الحياة، ولكن للحقل عقل وهو الإنسان الذي يخوض في مفازات الفهم، بعد اتساع مساحة التعليم التي خلقت الإنسان الجديد الذي يمتلك قوة السؤال.
القرن العشرون، شكّل حلقة تحول كبير في المسيرة الإنسانية، وأضاف أنواراً لما أشعلته عقول من سبقه منذ عصر النهضة الأوروبي. إبداع خطوط طول وعرض للإبحار والتحليق في عالم النص، أضاف فاعلية مذهلة بين المبدع والمتلقي. يصير الاثنان شريكين في النص.
من التحليل النقدي إلى الهرمنيوطيقا، التي تعود إلى هرمس، وهو مفسِّر كلام الآلهة للبشر في الأساطير اليونانية. استعمل المفكرون والفلاسفة هذا المنهج في الحقول المعرفية للتحرر من هيمنة الكنيسة، ثم انتقل إلى مجالات المعرفة الأخرى. اتسع هذا المنهج من التأويل إلى الهرمنيوطيقا في القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الألماني شلاير ماخر لفهم النصوص غير الدينية، أي الأدبية والفكرية وغيرها. اللغة التي هي تعبير قاموسي يضاف إليها العامل السيكولوجي للمؤلف المنتج للنص، وظروف المنتج من حيث الزمان.
خاض مفكرون كثر في هذا المنهج بين مؤيد ومعارض ومضيف. الإضافة الكبيرة والمهمة كانت الحوار الذي يتخلق بين المبدع والمتلقي بما له من تكوين ثقافي وعقائدي يُدخله في حوار مع النص ويجعله شريكاً فعالاً فيما يتلقاه عبره. ما كُتب في زمن مضى كان نتاج عقل وُلد في تكوين بشري له مكوناته، وصنعه تاريخ طُويت سنواته وتقادمت أسئلته. المتلقي الحديث له مقومات فهم وُلدت في ظروف تكوينية مختلفة. عندما يقرأ اليوم شابٌّ جامعي، أو طالب في المرحلة الثانوية، أو عامل في قطاع خاص أو عام، نصاً فلسفياً أو صفحات من التراث، لن يستسلم لها طائعاً مبهوتاً، لكنه في الأغلب سيلقي في داخل السطور الكثير من علامات الاستفهام بل الاعتراض الهرمنيوطيقي كمنهج للفهم، استضاءت به قامات سامقة في الفكر الحديث، والبحث عن المعنى في النص كان هو الهدف الذي ترحَّل فيه الجميع.
لقد شدتني أعمال الفيلسوف والروائي الإيطالي الكبير أومبيرتو إيكو الذي ألّف قرابة ثلاثين كتاباً وبحثاً في الفلسفة والفكر، وسبع روايات منها: «اسم الوردة» و«رقم صفر» و«جزيرة اليوم الأول». كتابه بعنوان «عملية مفتوحة OPERA APERTA» أو «العملية المفتوحة» الذي أعطاه العنوان الفرعي نمط أو صيغة التأويل في الشعر المعاصر، تألق فيه مستخدماً الهرمنيوطيقا، والتي عبّر فيها عن منهجه الذي اختصره بالقول: لا توجد نهاية لنص بل حتى لكلمة.
وقال: القارئ مؤلف موازٍ للمؤلف الأول. أومبيرتو إيكو منذ بداياته الفكرية الأولى انتهج الهرمنيوطيقا، وكرَّس أعماله لدراسة الجمال عندما قدم أطروحته «الجمال عند توما الإكويني»، ثم كتاب «الفن والجمال في العصور الوسطى» وغيرهما. في مجمل أعماله عن تلك المرحلة، قال إن العصور الوسطى لم تكن كلها مظلمة كما ساد عند البعض، لكنه أراد أن يقول إن علينا أن نقرأ ما أبدعته تلك العصور تحت أضواء منهج الهرمنيوطيقا.
وفي كتابه «حدود التأويل» وكتاب «قل نفس الشيء تقريباً»، رسخ هذ المنهج الذي أظن أنه صار مذهباً في الفكر المعاصر.
الفلسفة الإيطالية اليوم ليست لها قوة الحضور الأوروبي والأميركي بصفة عامة، لكن أومبيرتو إيكو، بطوفانه في النص الإبداعي والفكري بكل تجلياته أضاف الكثير إلى الفلسفة والفكر الإنساني، واليوم هناك جيل إيطالي جديد تتلمذ في مدرسة إيكو سيضيف الجديد إلى الفلسفة التي تؤكد أن الإنسان الجديد يبدع دائماً، وإن كان قارئاً لنصوصٍ أبدعها آخرون. الإنسان معنى ساكن في كل نص. السياسة كمنتج للصراع البشري الذي يتفجر في الحروب التي لا تهدأ إلا لكي تبدأ، هل تنطفئ نيرانها بولادة عقل إنساني لا يستعبد فيه النص الإبداعي أو الإعلامي والسياسي عقول البشر؟
أومبيرتو إيكو في كتابه «خطوات الجمبري» قال: السياسة مثل خطوات الجمبري لا يمكن أن تستقيم. لكن رغم هذا التشاؤم القلق، أعتقد أن العقل الإنساني القادم بقوة العلم، سيكون المهندس لدنيا جديدة يرسم خطوط الطول والعرض فيها بأقلام الفكر والعلم. تلك رحلة قد تكون طويلة، لكنها ستأتي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رحلة المعنى في النص رحلة المعنى في النص



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon