توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حاطبُ نهارٍ في الغابة الليبية

  مصر اليوم -

حاطبُ نهارٍ في الغابة الليبية

بقلم : عبد الرحمن شلقم

الأستاذ علي مصطفى المصراتي، شخصية ليبية فريدة في تكوينها وعطائها، في القول والفعل. ترعرع ودرسَ بمصر، فقد هاجرت عائلته كما فعل الكثير من الليبيين في أيام المحنة الليبية طيلة سنوات الاستعمار الفاشي الإيطالي. تخرج في دار العلوم بالقاهرة وعاد إلى طرابلس بعد هزيمة المحور ونهاية الاستعمار الإيطالي للبلاد. رافق بشير السعداوي زعيم حزب المؤتمر الوطني في حملته السياسية من أجل الاستقلال.
للمصراتي قدرة خطابية نادرة تجمع بين الفصاحة والبلاغة، وتتخلّلها الطرائف الشعبية والأدبية والتاريخية. يتجمَّع العامة من الناس في كل محفل يقف فيه خطيباً وطنياً يعبئ الجماهير من أجل الاستقلال والوحدة الليبية. علي المصراتي هو علي الوردي الليبي الذي طاف في النسيج الاجتماعي الليبي وأوقف حياته على التأليف الأدبي والتاريخي وحتى النوادر الشعبية الطريفة. مارس السياسة معارضاً في أول مجلس نواب ليبي بعد الاستقلال، وكان له فيه صوت يجلجل معارضاً لوجود القواعد الأجنبية في البلاد. اشتهر بسرعة البديهة وحضوره الطريف في ردوده. في إحدى الجلسات، قدم الأستاذ علي مصطفي المصراتي استجواباً عن انتهاك بحارة أجانب للمياه الإقليمية الليبية واصطيادهم «الإسفنج» الليبي، وقف أحد النواب مؤيداً لاستجوابه قائلاً «نعم، ما قاله النائب علي المصراتي صحيح وأنا اؤيده»، وأضاف النائب المؤيد قائلاً «صباح الأمس ذهبت مبكراً إلى أحد المقاهي وطلبتُ «السفنز»، فقيل لي لقد نفد، وبالتأكيد لقد أخذه الأجانب».
«السفنز» أكلة ليبية تقليدية يقبل عليها الليبيون في الصباح. صرخ النائب علي المصراتي «بطّلت، بطّلت سحبت استجوابي». لقد خلط النائب المؤيد بين كلمتي الإسفنج والسفنز. ألّف الأستاذ علي المصراتي عشرات الكتب في مختلف المجالات، ومن بينها كتاب عن الأمثال الشعبية الليبية. في أحد الأيام عندما كان يسير في شوارع طرابلس، قابله رجل إيطالي اسمه جوفاني، وسأله إلى أين وصلت يا أستاذ علي في كتابك عن الأمثال الشعبية؟ ردَّ عليه الأستاذ علي بالقول «وصلتُ إلى أكفر من جوفاني»، وذلك مثل شائع بين الليبيين. استوقفه ذات مرة شاب مندفع إلى دنيا الشعر الحديث، وقال له «يا أستاذي أريد أن اسمعك بعضاً من إبداعي الشعري»، وانطلق الشاب يقرأ شيئاً من شعره قال:
في الصباح أيقظتني سمكة بيضاء وهي ترفرف فوق الشجرة...
عرفتها وسألتها فقالت... الخ.
واستمر الشاب على ذاك المنوال، وعندما أنهى الشاب قصيدته، قال له المصراتي «مبروك يا ابني». فرح الشاب كثيراً، وقال مبتهجاً «هل أعجبك شعري يا أستاذي وقلت لي مبروك؟».
قال له المصراتي «لقد باركت لك بخروج هذا الشيء الذي لو بقي في بطنك لسبب لك الكثير من المغص، بل والقروح».
أهدى أحدهم للمصراتي كتاباً ألّفه في الأدب، شكره وقال له «أرجوك أن تكتب لي الإهداء في أول الكتاب»، استغرب وتردد الكاتب، فقال له المصراتي «أخاف أن يطلع أحد على هذه النسخة ويعتقد أنني اشتريتها».
استعار المصراتي كتاباً نادراً من شخص، فاشترط عليه الرجل أن يعيده له بعد يومين، لكن المصراتي قام بنسخ الكتاب ولم يتمكن من إعادته في الموعد. جاءه الرجل بعد يومين وطلب منه الكتاب فسأله المصراتي «لماذا أنت مستعجل هكذا على استعادة الكتاب»، فأجاب الرجل «لقيمته». ردَّ المصراتي «هل لقيمته أم قيمته؟»، مشيراً إلى بخله. الأستاذ علي المصراتي. كان مرة يركب مع صديقه وزميله المفكر والكاتب الدكتور علي فهمي خشيم الذي كان يقود السيارة. في الاتجاه المعاكس بالطريق، قام سائق السيارة المقابلة لسيارتهما بحركات سريعة. استغرب علي المصراتي وسأل الدكتور علي خشيم «ما هذا؟» ردَّ خشيم «هذه تحية لنا»، علّق علي المصراتي ضاحكاً «هذه تحية كاريوكا»، يعني راقصة.
ألّف الأستاذ علي مصطفى المصراتي في التاريخ والأدب وحقق الكثير من الكتب، ومن أهم مؤلفاته كتابه عن الشاعر ابن حمديس الصقلي ومنحته جامعة باليرمو في صقلية بإيطاليا درجة الدكتوراه الفخرية، وكذلك كتابه عن أبي قشة فهي صحيفة كانت تنشر الكاريكاتيرات والنكت، وغاص عبرها في تاريخ الصحافة الليبية، وكتب القصة القصيرة. كانت له علاقات وطيدة بكبار الأدباء العرب وكذلك الفنانون، وتحتوى مكتبته على آلاف الأشرطة التي سجلها مع طه حسين وأم كلثوم والجواهري الذي كان يقضي معه ساعات طويلة بالفندق الكبير بطرابلس عندما أقام الجواهري شهوراً في طرابلس وغيرهم. القفشة والنكتة لا تغيب عن المصراتي أبداً، وكثيراً ما تكون لها مقاصد ودلالات. ألّف كاتب ليبي كتاباً بعنوان «في الأصل كانت الإباحة». قرأ المصراتي العنوان باللهجة المصرية فصار، في الأصل كانت القباحة، شغل منصب مدير الإذاعة الليبية، جاءه شخص يطلب عملاً بالإذاعة، سأله علي المصراتي: ماذا تعرف؟ أجاب طالب العمل «أضرب عود وأضرب قانون»، استدعى الأستاذ علي شخصاً وقال لطالب العمل بلهجته المصرية: أنا عايزك تضرب ده. بعد ثورة فبراير (شباط) جاءه أحد رجال الأخ العقيد معمر القذافي وطلب منه أن يتحدث إلى الشعب الليبي ويدعوهم إلى الهدوء بحكم مكانته الكبيرة في أوساط الليبيين، فقال له الأستاذ علي المصراتي بدهاء طبعاً «أحسن من يقوم بذلك هو مولانا الملك إدريس السنوسي - حفظه الله». استغرب محدثه واقتنع أن الأستاذ الكبير قد طاله ألزهايمر بحكم سنه.
علي المصراتي موسوعة شاملة بمعرفة تفاصيل النسيج الاجتماعي الليبي من شرقه إلى غربه إلى جنوبه، وله إلمام شامل بالتاريخ الليبي قديمه وحديثه، وكانت له لقاءات مع الملك إدريس السنوسي والأخ العقيد معمر القذافي، وكلها لا تخلو من الرأي الصريح والوقفات والقفشات التي تحمل الكثير. كان الأستاذ يفضّل السير على قدميه في شوارع طرابلس ولا يستعمل السيارة، ويتحدث باسماً مع الجميع. الميزة الكبيرة التي عرفها عنه الجميع، هي قناعته وزهده في المال. طلب الأخ العقيد معمر القذافي من الأدباء والكتاب تعبئة نماذج يكتبون به طلباتهم، منهم من طلب سيارة أو وظيفة أو مالاً، الأستاذ علي المصراتي أعاد النموذج فارغاً كما هو دون أن يكتب عليه شيئاً. سألته مرة، يا أستاذنا الكبير لما لا تكتب شيئاً بتوسع عن المجتمع الليبي بكل ما فيه كما فعل الدكتور علي الوردي في العراق؟ ردَّ على طريقته ضاحكاً «لا أريد أن أكون حاطب ليل في الغابة الليبية». كان ذلك في سنوات طويلة خلت. الآن أتذكر دائماً قولته تلك. لكنه في الواقع كان حاطب نهار في الغابة الليبية بمنجله الخاص وهو القلم. أطال الله في عمر المناضل الوطني الكبير والمثقف الشامل الأستاذ علي مصطفي المصراتي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حاطبُ نهارٍ في الغابة الليبية حاطبُ نهارٍ في الغابة الليبية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon