توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ملاحم الرائد عبد السلام جلود

  مصر اليوم -

ملاحم الرائد عبد السلام جلود

بقلم : عبد الرحمن شلقم

    في شهر يناير (كانون الثاني) صدرت مذكرات الرائد عبد السلام أحمد جلود. سعدتُ كثيراً بهذا العمل الذي يمثل حدثاً مهماً للتاريخ السياسي الليبي. مذكرات السياسيين لها أهمية كبيرة للشعوب، فهي إضافة لذاكرة الأوطان، وتلقي أضواء مهمة على حلقات الماضي التي لا تزول آثارها على دروب الحياة. عبد السلام جلود من الشخصيات التي لعبت دوراً كبيراً في ليبيا من 1969 إلى 1994. ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) التي فكّر فيها معمر القذافي الشاب الطالب وهو في المرحلة الإعدادية بمدرسة سبها في الجنوب الليبي، في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، كانت حلماً شبابياً ومغامرة تحركت في قلوب مجموعة محدودة من الشباب الليبي، قبل أن ترتسم خطوطها في عقولهم.
لقد سررتُ كثيراً بصدور هذه المذكرات. للأسف أنَّ كل الساسة الليبيين الكبار في العهدين الملكي والجماهيري لم يكتبوا مذكراتهم، باستثناء اثنين هما: مصطفى بن حليم ومحمد بن عثمان الصيد، وكانا من أبرز رؤساء الوزارات في العهد الملكي. هناك شخصيات لعبت دوراً في مراحل حساسة من تاريخ لم تكتب مذكراتها، ومن بين هؤلاء محمود المنتصر، أول رئيس لوزراء ليبيا بعد الاستقلال، وكان من بناة دولة الاستقلال الاتحادية، وتولى رئاسة الديوان الملكي وترأس وزارتين، وحسين مازق الذي كان والياً لبرقة ورئيساً للوزراء، وهو من الشخصيات التي امتازت برؤية سياسية، وكان معروفاً بالحكمة والنزاهة، وعبد الحميد البكوش الشاب المحامي والمثقف الذي طرح موضوع الشخصية الليبية.
أما رجال العهد الجماهيري وفي مقدمتهم أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الوحدويون الأحرار ورؤساء الحكومات وأمناء مؤتمر الشعب العام، فلم ينشر أحد منهم مذكراته. الأمل أن تحفّز مذكرات الرائد عبد السلام جلود مَن هو على قيد الحياة منهم، ولهم قدرة على كتابة مذكراتهم مباشرةً أو الاستعانة بمن يساعدهم على صياغتها، ومن بينهم شخصيات بارزة امتلكت قدرات إدارية وسياسية وفنية وقدمت الكثير للوطن في أصعب الظروف.
عبد السلام جلود كان الرجل الثاني في حركة الوحدويين الأحرار منذ البداية. التقى الطالب معمر القذافي في سبها، عاصمة ولاية فزان سنة 1957 عندما جرى اعتقالهما بمركز للشرطة إثر مظاهرة قام بها الطلاب، احتجاجاً على التجارب النووية الفرنسية بالجنوب الجزائري القريب من الحدود الليبية. بدأ الاثنان، معمر وعبد السلام، في تشكيل خلايا سرّية من الطلاب بعدما اتفقا على تأسيس حركة تهدف إلى إسقاط النظام الملكي، وإقامة جمهورية تجسد أفكار جمال عبد الناصر في الحرية والاشتراكية والوحدة. الطالب معمر بومنيار القذافي كان هو الزعيم الذي سار وراءه الجميع منذ البداية. وضع معمر خطته مبكراً، وهي استعمال الجيش سلّماً للوصول إلى السلطة منتهجاً ذات الخطة التي وضعها جمال عبد الناصر ونفّذها بنجاح. كان عبد السلام جلود منذ البداية التوأم المدني والعسكري والفكري لمعمر القذافي.
في بداية مذكراته تحدث عبد السلام جلود عن طفولته بمنطقة الشاطئ في الجنوب الليبي، ومنها إلى لقائه الأول مع معمر القذافي بمركز البوليس بمدينة سبها. بعد الاعتقال، أُعطيت لكل واحد منهما بطانية، اقترح معمر على عبد السلام أن يشتركا في افتراش واحدة والغطاء بأخرى. لم يكن أحد منهما فد قابل الآخر، ولكنّ صديقاً مشتركاً لهما هو محمد بلقاسم الزوي كان قد حدّث كل واحد منهما عن الآخر.
هكذا في مركز البوليس بمدينة سبها كانت بذرة الخلية الأولى لحركة الوحدويين الأحرار الليبية، وسقتها الأيام والسنوات بمياه السرّية المدنية والعسكرية إلى أن ترعرعت واستولت على السلطة في أول سبتمبر 1969. منذ البداية احتل عبد السلام جلود المرتبة الثانية في الحركة بعد معمر القذافي، وقبل ذلك بعد نجاح الحركة كل أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار. كانت وسائل الإعلام في الخارج تصفه بالرجل الثاني، وكان هو يقول عن نفسه إنه الأول مكرر.
في ليلة الأول من سبتمبر، كان معمر القذافي في بنغازي ومعه بعض الضباط الأحرار، وكان عبد السلام جلود في طرابلس.
مباشرةً بعد نجاح الحركة وإعلان اسم معمر قائداً لها ومنحه رتبة عقيد، وإعلان أسماء أعضاء مجلس قيادة الثورة، برز الرائد عبد السلام جلود كشخصية ثانية بين الأعضاء وتولى قيادة المفاوضات مع الأميركان حول إجلاء القواعد العسكرية الأميركية، وبعد ذلك مع البريطانيين لإجلاء قواعدهم العسكرية من ليبيا. مع الطرفين تبدت شخصية جلود المتشددة، وبعد ذلك قاد المفاوضات مع شركات النفط الأجنبية. شُكلت الوزارة الأولى بعد الثورة برئاسة محمود المغربي ولم تدم إلا شهوراً معدودة، قام بعدها العقيد معمر القذافي بتشكيل الوزارة الثانية، وتولى فيها الرائد عبد السلام حقيبة الداخلية. وفي سنة 1972 شكّل عبد السلام جلود الوزارة الثالثة واستمرت حتى سنة 1977، ويعد بذلك أطول رئيس وزراء مدة في تاريخ ليبيا.
لا شك أن المذكرات التي تُكتب بعد مرور سنوات طويلة على الأحداث التي تسردها يطالها الكثير من الشوائب، من حيث التواريخ والأسماء، ولم تكن مذكرات الرائد جلود استثناءً من ذلك.
في ليبيا التي عاشت مخاضات كثيرة، ودخلت في معارك سياسية وعسكرية ومواجهات مع دول قريبة وبعيدة، وكذلك صراعات داخلية أخطرها المحاولات الانقلابية التي كان بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وبعض الضباط الأحرار من بين المشاركين فيها، كل ذلك من دون شك يكون له حضور بين سطور المذكرات. الجانب الذاتي، وَلْنَقُلْ الشخصاني، لا يغيب كذلك عن صفحات المذكرات. مَن يتذكر لا يتحرر من ذاته وهو يحرِّر. يتحرك المُتذكِّر بين موجات الضحية والبطل، ومَن تتحرك في حياته وتاريخه ذبذبات الآيديولوجيا، تحدوه الحالة الخطابية. كل تلك المحركات نجدها في مذكرات رجال السياسة والعسكرية والفن والأدب. هناك أشخاص اشتركوا في نشاط واحد لسنوات طويلة، ولكن عندما نقرأ مذكرات كل واحد منهم، نجد بين أيدينا أوراقاً سُطِرت عليها معلومات بل أحداث، بها الكثير من الاختلاف كأن من كتبوا لم يجمعهم مكان أو زمان أو نشاط. كل واحد يرى الأحداث ويكتبها من وجهة نظره.
مذكرات الرائد عبد السلام جلود التي اختار لها عنوان «الملحمة» هي في صفحاتها الـ456 أكثر من ملحمة، بل هي ملاحم طويلة بكل تجلياتها منذ الطفولة إلى آخر يوم توقف فيه عند الكلام المسكوب فوق صفحات كتاب مذكراته، الملحمة. ولي عودة إلى رحلة جلود الطويلة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ملاحم الرائد عبد السلام جلود ملاحم الرائد عبد السلام جلود



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon