توقيت القاهرة المحلي 11:54:09 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العولمة البشرية المتحركة

  مصر اليوم -

العولمة البشرية المتحركة

بقلم : عبد الرحمن شلقم

العولمة كلمة اقتحمت الدنيا، منذ قرون بإيقاع غاب عنه الهدوء والسلام في أغلب حلقاته ودوراته. شعوب تحركت عابرة للأرض والبحار والقارات. الحروب كانت سمة من سمات الحياة. الاستعمار الذي سيطرت عبره أمم قوية على أخرى، شكل تكوين العالم لعصور طويلة، وفرض ديانات وثقافات وسلوكاً، على الشعوب المستعمَرة. بعد بداية عصر النهضة في أوروبا، زالت القيود التي فرضتها المعتقدات والأفكار القديمة على الشعوب. انطلقت الأفكار وبدأت حقبة الفلسفة والتنوير والنهوض. العلوم الطبيعية والتقنية وانطلاق عصر الآلة، كلها ولدت من رحم حرية العقل. منذ اختراع وسائل المواصلات والاتصالات الجديدة. بدأ زمن العولمة. صار البشر يشتركون في المعرفة بقدر كبير، ويتحركون بسرعة لم تعرفها الدنيا في آلاف السنين الغابرة. منذ بداية القرن العشرين، ولدت دنيا العالم الجديد. الطيران والتلفون ثم الراديو والتلفزيون، إلى تقنية الفضاء ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. كل ذلك جعل البشرية تعيش عالماً، تلاشت فيه الحدود الجغرافية وحتى العقدية والثقافية والعرقية والمعرفية. من الهوموسابينس، الإنسان العاقل، إلى إنسان العولمة، عبرت البشرية قروناً طويلة من المعاناة والحروب والجهل والعداوات الدموية. الولايات المتحدة الأميركية، آخر الكيانات المكتشفة أضافت عالماً جديداً إلى العالم القديم. توجه إليها الملايين من كل بلدان العالم، وتأسست فيها مفاهيم جديدة للهوية بعد استقلالها عن بريطانيا. قامت دولة جديدة بدستور مبتكر، حضرت فيه حزمة القيم التي أنجبتها الثورة الفرنسية. وحققت وحدتها بحرب أهلية عنيفة. استمرت التفرقة العنصرية ردحاً من الزمن وعانى فيها ذوو الأصول الأفريقية من الدونية والاستعباد. في ستينات القرن الماضي، ألغيت التفرقة العنصرية وبدأ عصر أميركي بل عالمي جديد.

شهد العالم حربين عالميتين، رسمتا خرائط جديدة للعالم، وقامت أنظمة فاشية ونازية عنصرية ونظام شيوعي ديكتاتوري، ثم بدأت حقبة الاستقلال للدول التي كانت تحت ربقة الاستعمار الأوروبي. دول أوروبية كثيرة عاش فيها الملايين من الشعوب التي كانت مستعمَرة لها، وحمل هؤلاء معهم معتقداتهم الدينية وثقافاتهم وسلوكهم. الولايات المتحدة الأميركية، شهدت تدفقاً لملايين المهاجرين من كل قارات العالم، وبخاصة من بلدان أميركا اللاتينية. في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، أصبحت القارة الأوروبية قبلة للمهاجرين من أفريقيا وآسيا، وفي العقدين الأخيرين، تدافع المهاجرون من أفريقيا والبلاد العربية وآسيا عبر البحر الأبيض المتوسط، إلى بلدان أوروبا الغربية. صارت قضية المهاجرين تهزّ الكثير من الدول الأوروبية. التطرف والإرهاب والتأثير السلبي في سوق العمل، وأزمات مزمنة تجثم على كاهل الحكومات الأوروبية. حوادث عدة شهدتها بعض الدول الأوروبية، مثل حادثة «شارلي إبدو»، التي قتل فيها عشرون شخصاً في باريس، وكذلك حوادث مماثلة في دول أوروبية أخرى، طرحت أسئلة عن خطر المهاجرين في هذه الدول، وبخاصة المسلمون. اندماج المهاجرين المسلمين في المجتمعات الغربية ذات السلوك الاجتماعي، والمنظومات القيمية المختلفة، طرح سؤال الاندماج في هذه المجتمعات. في أوروبا اختلف المشهد من دولة إلى أخرى، ففي بريطانيا وهولندا وألمانيا، وكذلك في كندا ونيوزيلندا وأستراليا، تحقق قدر كبير من اندماج القادمين في هذه المجتمعات، بينما كان الأمر أكثر تعقيداً في فرنسا. فرنسا تبنت منذ مطلع القرن الماضي المبادئ العلمانية، وفُصل الدين عن السياسة، بل وحتى عن الحياة الاجتماعية، وعليه لم يعد من المقبول، حمل ما يشير إلى هوية المواطن الدينية أو العرقية. مشكلة أخرى مضافة، وهي تكتل السكان الذين ينتمون إلى عرق أو دين معين، في مناطق على أطراف المدن، ويمارسون طقوسهم وعاداتهم التي حملوها معهم من بلدانهم الأصلية، ويتصاهرون في ما بينهم. غابت عملية الاندماج في الكثير من المجتمعات، وقام في بعضها «غيتوهات» اجتماعية ودينية، ساد فيها الفقر والتطرف والبطالة وحتى الأمية. في المقابل نشأت عنصرية من نوع جديد، مارسها بعض السكان الأصليين على القادمين الجدد. كل ذلك أعاق عملية الاندماج الكامل، والاستيعاب الاجتماعي والثقافي.

في الولايات المتحدة، تحقق الاندماج بين شرائح المجتمع المختلفة، ونشأ مجتمع معولم، فكل السكان تقريباً هم من القادمين من خارج البلاد الأميركية، واللغة الإنجليزية هي لغة العولمة، وفرص العمل والتعليم متاحة للجميع إلى حد كبير. ولا أعتقد أن هناك بلداً في العالم ليس لديه مهاجرون في الولايات المتحدة. ووصلت شخصيات من أصول آسيوية وأفريقية ولاتينية إلى مراتب عليا في السياسة والإدارة والإعلام والاقتصاد وغيرها.

المجتمعات الأوروبية تعاني من تراجع نسبة المواليد، مما يخلق حاجة متزايدة لليد العاملة، وذلك يفتح الأبواب للمهاجرين للدخول في سوق العمل. اللجوء السياسي، واتفاقية الهجرة التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1951 ضمنا حقوقاً واسعة للمهاجرين، وهي ملزمة لجميع الدول الموقعة عليها. اليوم يعيش العالم كله حالة عولمة بشرية، يتحرك فيها ملايين البشر رغم وجود سياسات صارمة لتقييد طوفان الهجرة غير النظامية. الفرق الرياضية التي تشد إليها مليارات البشر في المباريات الدولية، تعلن تشكيلاتها عن واقع العولمة التي تعم العالم. فرق أوروبية أبطالها من أصول غير بيضاء، ولا تتوقف أجورهم عن الارتفاع بصورة خيالية. السياحة صارت من الأسواق التي تلغي الحدود بين الناس، ومصدراً اقتصادياً معتبراً للدول، ومن مظاهر العولمة البشرية. وسائل التواصل الاجتماعي الحاضرة في كل مناكب الأرض، تساهم بقوة في عولمة المزاج البشري، وبخاصة بين الشباب.

حراك الإنسانية الثقافي والعلمي والتقني والفني والرياضي، يزيل المسافات بين البشر، ويساهم في توسيع دائرة التواصل بين الأمم.

كانت الحروب عبر العصور الطويلة، ساخنة وباردة، فكيف ستكون العولمة البشرية التي فرضت نفسها الآن على الدنيا؟.

الذكاء الاصطناعي، قوة تقنية تبشر بعالم جديد، يعبئ فيه الإنسان عقله إلى مدى غير مسبوق، ويبدع قوة لا حدود لها، تكبح أضرار ما ألحقه الناس بالطبيعة، وينتج قوة مضافة إلى قدرات الإنتاج، ويضيف عضلات سحرية إلى الكائن البشري. الذكاء الاصطناعي، سيؤسس لعصره الذي سيلد عالماً آخر، كل ما فيه جديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العولمة البشرية المتحركة العولمة البشرية المتحركة



GMT 08:58 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

سبع ملاحظات على واقعة وسام شعيب

GMT 08:47 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

المالك والمستأجر.. بدائل متنوعة للحل

GMT 08:43 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 08:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أوهام مغلوطة عن سرطان الثدي

GMT 07:32 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ماذا تفعلون في هذي الديار؟

GMT 07:31 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

من جديد

GMT 07:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

GMT 07:29 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

لقاء أبوظبي والقضايا الصعبة!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon