بقلم: عبد الرحمن شلقم
هكذا سمَّاها شاعرُ الدهرِ ومريضُه وطبيبُه وحكيمُه، أبو الطيب المتنبي. الحُمَّى، ذاك الداءُ الكامنُ دائماً في مفاصل الزمان والبشر، يظهر في الأفراد والمجتمعات بأعراض شتَّى، أمراض جسدية وأزمات محلية ودولية اقتصادية وسياسية وحروب إقليمية ودولية.
بنتُ الدَّهر لا تغيب عن رحم الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد. تعبر كل الأمكنة ولا تشيخ، ويبقى مفعولها في الأجساد والرؤوس والنفوس. اليوم يهتزُّ العالمُ رعباً من هذه البنت التي تغشَى الأجسادَ وتقضي على حياة البعض، وتضربُ الاقتصاد العالمي فتتداعَى البورصات وتختلُّ الحركةُ في أطراف الدنيا.
أعراض الضعف على الوجود البشري تحرك مفاعيل الاختراع والإبداع لمواجهة ثقوب الضعف التي تتبدى مع مرور الزمن عبر أعراض متعددة الملامح. تلك هي بنات الدهر التي تتوالد من دون توقف. الأزمات التي تتزاحم اليوم على ربوع الكون، لا تستثني أرضاً أو شعباً وإن تباينت أعراضها. لقد شخَّصها حكيم الدهر أبو الطيب المتنبي عندما داهمته الحمّى، وهو يقيم بأرض مصر مهموماً بثقل الغربة والإحباط وانكسار الأمل، فقال:
أبنتَ الدَّهرِ عندي كلُّ بنتٍ
فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحَامِ
جرحتِ مجرَّحاً لم يَبقَ فيهِ
مكانٌ للسيوفِ ولا السهامِ
هل هذه البنت التي أنجبها الدهر هي من صلب منطقتنا العربية، وكان شاعرنا العالم الذي حلل تكوينها والمريض الطبيب الذي شخَّصها ووصف أعراضها بعد أن جثمت عليه. حاورها وبث لها شكواه وعاتبها وكتب بحرف شعره تقرير حالته النفسية والجسدية التي أقعدها الوهن. حمَّى أبي الطيب تطوف اليوم في داخل الجسد العربي ولا تستثني العقول، بل تغزو الكيانات وقماشة المجتمع وحتى حشاشة الضمير.
هناك شخصيات تاريخية، فلاسفة وشعراء وحكماء وأدباء غاصوا في بحور الكيمياء الإنسانية منذ القدم وعلى مر العصور، وكتبوا بلغات شتى تكوين النفس البشرية وتحولاتها بعنفها وإبداعها واختراعاتها وحروبها. «الشاعر»، كما كان يسميه أبو العلاء المعري ولا يطلق هذه الصفة على غيره، أبو الطيب المتنبي كان سابقاً لعصره وحاضراً في كل عصر إلى يومنا هذا.
كتب الأستاذ عباس محمود العقاد في مطالعاته، أنَّ المتنبي سبق الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كثير مما أتَى به من أفكار في تحليل النفس البشرية وتجلياتها في القوة والضعف والأخلاق. ترجمت أشعار المتنبي إلى عشرات اللغات وكتبت عنه مئات البحوث ورسائل الماجستير والدكتوراه، وكان ملتقى لأغلب المستشرقين.
عاش الشاعر متنقلاً بين العراق والشام ومصر وبلاد فارس في حقبة تكوين وتفكيك سياسي واجتماعي وحروب لا تتوقف إلا لتنشب مرات ومرات في مناطق مختلفة. عرف صخب الشخصية العربية وهدوءها والصراعات ودوافعها حين تصادمت المذاهب الدينية، واتسعت الطموحات السياسية وساد قانون المغالبة. كان طموحه الذاتي من صلب صيرورة الصراع، وفي الوقت نفسه قرأ بحدة الذكاء ما في الدخائل وكتَبَه شعراً لا ينال منه الزمن ولا يطاله التقادم.
في قصيدته «ملومكا يجلُّ عن الملامِ»، صبَّ أبو الطيب عصارة فلسفته وحكمته وتشخيصه للذات العربية، والتي يمكن توسعتها لتشمل كل بني البشر في مسارات الدهر.
بنت الدهر، الحمَّى التي عصرت جسده، نزَّت حروف حكمته شعراً نقرأ فيه تشخيص عالم النفس والاجتماع لما انتخلته تجربته الصاخبة في الحياة مع صنوف متنوعة ومتعددة من العرب في زمن استثنائي، قال:
فلمَّا صارَ ودُّ الناسِ خِبّاً
جزيتُ على ابتسامٍ بابتسامِ
وصرتُ أشكُّ فيمن أصطفِيهِ
لعلمِي أنَّه بعضُ الأنامِ
ولو استعرضنا اليوم وضع العرب، وغصنا في مجريات ما نراه أمامنا في كثير من البلدن العربية من عنف وصراع وتراجع، رغم مقومات النهوض والتقدم، لصعقنا الشاعر بأبياته الرهيبة:
عجبتُ لمن له قدٌّ وحدٌّ
وينبُو نبوةَ القضمِ الكهامِ
ومن يجدُ الطريقَ إلى المعالِي
فلا يذرُ المطي بلا سنامِ
ولم أرَ في عيوبِ الناسِ شيئاً
كنقص القادرينَ على التمامِ
لقد غادرت بنت الدهر المتنبي وغادر الدنيا منذ أكثر من ألف عام، ولكنها لم تغادرنا وبقيت توهن الأجساد والعقول. في العراق بلد الدهر يقول الجمع المتظاهر الغاضب: رئيس حكومة يا محسنين.
في وطن الفلسفة والفكر والفقه والنهوض والإبداع والثروة، يتدفق الدم وتذبل إرادة الحياة. في لبنان أرض فرحة الحياة والإبداع ورجال القامات في كل المجالات الذين قادوا مراحل التطوير الثقافي والفكري والفني في البلاد العربية والعالم، نرى اليوم الخصام والمعاناة، أما اليمن العربي الذي اقترنت الحكمة باسمه فقد سطت عليه قلة تابعة لعقيدة عفّى عليها الزمن، وافترسه المرض والعوز وسط صراع مجنون. لا تسل عن ليبيا التي وهبها الله كل شيء، لكنها نبت نبوة القضم الكهام وغاصت في مستنقع بلا قاع.
يبدو أن بنت الدهر عشقت كل شيء فينا، وتمكنت من الأجساد والعقول واتخذت منها سكناً لها، وعلى قول الشاعر:
فرشتُ لها المطارفَ والحشايَا
فعافتْهَا وباتتْ في عظامِي
إنها بنت الدهر التي ترفض أن تغادرنا، سكنت في العظام والرؤوس، وغلبت الزمن ملتذة بما فينا من حرارة نقص القادرين على التمام.