توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الآيديولوجيا والسياسة

  مصر اليوم -

الآيديولوجيا والسياسة

بقلم: عبد الرحمن شلقم

سؤال الآيديولوجيا هو في الواقع كتلة كبيرة من الأسئلة، فهي تلك القوة الكامنة في العقول تدفع الناس إلى الإيمان بمنظومة محكمة، بل أحياناً مقفلة من الأفكار، وتحديداً في المجال السياسي. الأساتذة الدكاترة مالك عبيد أبو شهيوة، محمود محمد خلف، مصطفى عبد الله خشيم في جامعة طرابلس بليبيا، قاموا بجهد فريد للاجابة عن ذلك السؤال في عمل كبير وعميق من مجلدين بعنوان «الآيديولوجيا والسياسة ـ دراسة في الآيديولوجيات السياسية المعاصرة». استعرض الباحثون في البداية جملة من التعريفات الأكاديمية والفكرية للآيديولوجيا.
لا شك أن الأساتذة الثلاثة قاموا بمغامرة علمية وسياسية في ذات الوقت، فقد أصدروا تلك الدراسة في بداية العقد التاسع من القرن الماضي. في تلك الأيام كانت الآيديولوجيا جزءاً من كل شيء في ليبيا سياسياً واقتصادياً وفكرياً واجتماعياً على الأقل من الناحية النظرية. الكتاب الأخضر الذي ألفه القذافي كان عملاً آيديولوجياً شاملاً، الاقتراب من تلك المنطقة مغامرة سياسية بقدر ما هي فكرية. استطاع الأساتذة أن يخوضوا تلك المغامرة بقدرة علمية موضوعية لم يطلها ضغط الواقع السياسي.
استعرض الأساتذة تعريفات الآيديولوجيا التي ساقها علماء السياسة والاجتماع وحتى علماء النفس في مراحل من التاريخ.
استحضر المجلد الأول التعريف الذي ساقه الدكتور عبد الله العروي في كتابه «مفهوم الآيديولوجيا»، وهو أنها مفهوم حديث نسبياً، جاء إلينا من الفكر الفرنسي بعد ثورة 1789، وترجمتها هي علم الأفكار، وكان الهدف من المفهوم الجديد هو أن يحل محل «الميتافيزيقا» التي كانت غير ذات قيمة بعد الثورة الفرنسية، والتي عملت على تغيير كل شيء لتأكيد انفصالها عن النظام القديم. في تلك المرحلة كان الصراع بين الأفكار أعتى مما هو بين السلاح. نابليون هاجم المفكرين والمثقفين الذين عارضوا توجهاته الاستبدادية مقدما مصطلحاً جديداً هو «الآيديوفوبيا» أي الخوف من الفكر. مع ظهور البرجوازجية برزت تيارات فكرية أهمها اللاهوتيون والعقلانيون. الفكر الماركسي وهو الذي أنتج قوة سياسية آيديولوجية ـ الشيوعية ـ في القرن العشرين، قام على أسس اقتصادية في زمن التحولات الكبيرة التي شهدها العالم بعد انطلاق الثورة الصناعية. محور الفكر الذي بناه ماركس وإنغلز كان دافعه تحقيق العدالة للطبقة العاملة التي تنتج ولا تنال نصيبها الحقيقي مما تنتجه. بعد قيام الاتحاد السوفياتي كأول نظام سياسي شيوعي، اتسع مدى ذلك الفكر نظرياً وسياسياً وبعد الحرب العالمية الثانية، فرضه ستالين نظاماً سياسياً على عدد من دول أوروبا الشرقية.
قام فلاديمير إيلتشن لينين بتطويع أفكار ماركس إلى الواقع الروسي وطور الكثير من الأفكار الماركسية من خلال كتاباته الفكرية والسياسية. أوضح لينين الحاجة إلى القيادة والتنظيم، وأن الحزب هو الذي يقوم بمهمة تعليم الجماهير وتعبئتها بالروح الثورية ويقودهم إلى الحركة. تأسس الاتحاد السوفياتي وأصبح قوة عسكرية وسياسية ضاربة، لكنه انهار كقصر من الرمل على شاطئ تضربه الأمواج. لقد نخرته الآيديولوجيا التي كانت أداة للتحريك ثم صارت عاملاً للجمود والانهيار.
عرض الباحثون الشيوعية الماوية كإطار نظري وتطبيقاتها السياسية والاقتصادية. يرى ماو أن قيادة الثورة الصينية لا بد أن تكون لطبقتي العمال والفلاحين وتستند فكرة ماو تسي تونغ الرئيسية في هذا الصدد إلى أن العمال والفلاحين يكونون الأغلبية العظمى من الشعب الصيني. لقد كان للوضع السياسي والاجتماعي الخاص للصين تأثير كبير على المضمون الآيديولوجي وانعكاس له في ذات الوقت. كانت القومية الصينية عاملاً مهماً في الثورة الصينية، حيث إنها أخذت وقتاً طويلاً مقارنة بغيرها من الثورات، وخاصة الثورة الروسية في سنة 1917، فكانت الثورة الصينية على جبهتين: الجبهة الداخلية وهي محاربة حركة الكومنتاج التي يقودها شين كيان شيك وأعوانه من البريطانيين والأميركيين، والجبهة الخارجية وهي اليابان التي تحتل شرق الصين. وهكذا تداخلت القومية مع الحزب وجيش التحرير الشعبي مما تلازم مع أفكار الحزب وسياساته.
خاض ماو حروباً داخلية متواصلة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، بل كانت ثورات لم تخلُ من العنف، أبعد فيها العديد من قيادات الحزب وفرض سياسات اقتصادية تسببت في موت الملايين، وفرض كتابه الأحمر على الجميع عبر الثورة الثقافية ليكون ديناً جديداً للشعب الصيني. التجربة الصينية في كل تحولاتها، قدمت نموذجاً جديداً للآيديولوجيا في تجليات عدة. لقد حارب ماو بسلاحه وأفكاره لتحرير الصين وتوحيدها، لكنه ضحى بالملايين من البشر الذين ماتوا جوعاً وسخرة عنيفة تحت سوط أفكاره التي لا تقبل النقاش من خارج الحزب أو من داخله.
في المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي الذي انعقد سنة 1987 شهدت الصين تحولاً كبيراً وحاسماً، حيث بدأت مسيرة إنهاء الآيديولوجيا المقدسة وبدأت مرحلة البناء والتحديث ولم يبق من الحزب الشيوعي إلا قوته الأمنية والإدارية المسخرة للتطوير الاقتصادي.
هل الليبرالية آيديولوجيا، وهل هي المقابل النقيض للفكر الماركسي؟ تنطلق الليبرالية من مقولة «إن السوق صنع الإنسان»، ويرى ماكفيرسن أن الليبرالية قبلت حقيقة الانقسام الطبقي وبنت عليها أسسها العلمية التطبيقية. إن أول من ساهموا في صياغة الليبرالية قد قدموا سلسلة من التفسيرات العقلانية، والتي بدأت من الافتراضات التي بُني عليها السوق الرأسمالي وقوانين الاقتصاد السياسي التقليدية. واستندوا إليها في تبرير الحاجة إلى الحكومة والنظام الذي يسمح باختيارها. المفكرون الذين خاضوا في مكونات الليبرالية كثر ونسجوا الخيوط الرابطة بين عناصرها رغم الاختلافات في بعض التحليلات. المرتكز الأساسي هو التكامل بين الليبرالية في جانبها الاقتصادي مع الديمقراطية في الجانب السياسي.
القومية شكلت الآيديولوجيا التي ساهمت في قيام الدول، وهي تدفع الجماعات إلى التلاحم والانخراط في جماعة سياسية واحدة، وكلما سمعنا كلمتي، نحن وهم، طاف النفس القومي. القومية مثل غيرها من الآيديولوجيات السياسية الأخرى تعتبر أداة أو وسيلة للوصول للسلطة والتشبث بها من جانب جماعات سياسية معينة.
لقد مرت الإنسانية بحقب تدافعت فيها الأفكار، وتفاعلت فيها الفلسفة والأديان وخاض البشر صراعات مسلحة رسمت خرائط البلدان ورسمت مسار الثروات وكانت الآيديولوجيا نتاجاً للحراك البشري فكرياً وعلمياً. اليوم نعيش في عالم تجاوز تقديس الفكر المعلب الذي يقدم للناس في حقنة اسمها الآيديولوجيا، وصفة جاهزة معبأة بسائل الأحلام والآمال تحل مشاكل الناس بمقولات وشعارات لا تخلو من تصنيف الآخر. لكن رغم ذلك، لا يزال التطرف الفكري يفعل فعله في شتى البقع، حيث يسطو العنف على بعض العقول ليخدرها ويدفعها لقتل الآخر. الآيديولوجيا تبقى جبلاً من المتفجرات النائمة أو اليقظة قي بعض الرؤوس وإن تراجع دورها التنظيمي السياسي كسلم للسلطة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الآيديولوجيا والسياسة الآيديولوجيا والسياسة



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon